تاريخ المسلمين .. تاريخ ( سلاح ) وليس ( سياسة )
رحلة طويلة خاضتها جماعة الحشاشين، منذ أن سيطر الحسن الصباح على قلعة آلموت، وحتى اندثار هذا التنظيم بدويلاته المختلفة فى فارس والشام، على يد المغول والمماليك، تحلل التنظيم واتجهت الأجيال الجديدة من الإسماعيلية النزارية إلى العمل الاقتصادى، وحاولت الابتعاد قدر الإمكان عن العمل السياسى، لكن ذلك لم يمنعها من تجسير صلتها بصناع القرار داخل دول العالم الإسلامى المختلفة، من خلال التبرعات والأعمال الخيرية، وغير ذلك من أمور، لكنها فى المجمل العام تابت عن العمل التنظيمى، وأصبحت فكرة العمل المسلح وفرق الاغتيال السياسى جزءاً من تاريخها، لكن يبقى أن ذهاب التنظيم لا يعنى زوال الفكرة، أقصد فكرة العمل المسلح، التى تجد لنفسها أرضاً خصبة فى الكثير من بلاد المسلمين، وما زالت الجماعات التى تؤمن بحمل السلاح فى وجه الحكومات، واستخدام الاغتيال كوسيلة لتصفية الخصوم السياسيين قائمة وموجودة.
وإذا كانت مصر قد شهدت مولد فكرة العمل المسلح على يد جماعة الحشاشين أواخر العصر الفاطمى، فما زال هذا البلد بيئة حاضنة لظهور مثل هذه الجماعات التى لم يعان منها مجتمع كما عانى المجتمع المصرى، فقد شهد التاريخ القريب ميلاد جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، التى لجأت إلى إنشاء جهاز خاص، يقوم بنفس الدور الذى كانت تقوم به فرق «الفداوية» الحشيشية فى تصفية الخصوم السياسيين بالسلاح، وفى الوقت الذى كان يقوم فيه الجهاز بذلك، لم تتباطأ كوادره عن المشاركة فى الحرب المقدسة التى خاضها العرب ضد العصابات الصهيونية عام 1948، والتى انتهت بقيام دولة إسرائيل، تماماً مثلما كان الحشاشون يقاومون الاحتلال الصليبى لبيت المقدس، ولا يتورعون بعد ذلك عن القيام بعمليات الاغتيال السياسى، ومن رحم الجهاز الخاص فى الإخوان خرجت العديد من عناقيد الغضب التى خاضت صراعاً مسلحاً ضد النظام الحاكم فى مصر بعد ثورة يوليو 1952، فى هذا السياق نستطيع أن نذكر محاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر على يد الجهاز الخاص عام 1954، ثم تنظيم المرحوم سيد قطب عام 1965، الذى اتهم أيضاً بمحاولة اغتيال الرئيس وهدم نظام الدولة، تواتر بعد ذلك ظهور العديد من التنظيمات العنقودية على الساحة المصرية، كان من أبرزها تنظيم الفنية العسكرية الذى قاده صالح سرية، وحاول أعضاؤه اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1974، ثم كان تنظيم التكفير والهجرة بزعامة شكرى مصطفى الذى نجح فى اغتيال الدكتور محمد حسين الذهبى وزير الأوقاف الأسبق عام 1977، ثم تنظيم الجهاد الذى أسسه الدكتور عمر عبدالرحمن وتزعمه المهندس عبدالسلام فرج، ونجحت إحدى مجموعاته، المكونة من خالد الإسلامبولى وحسين عباس وعطا طايل حميدة، فى اغتيال الرئيس السادات فى حادث المنصة الشهير عام 1981.
فى كل الأحوال كانت تهمة «السعى إلى هدم الدولة المصرية» حاضرة وبقوة فى سجل الاتهامات الموجهة إلى كل هذه التنظيمات، مثلما كانت تهمة «السعى إلى هدم الدولة السلجوقية» توجه بصورة أساسية إلى جماعة «الحشاشين»، فالمواجهة دائماً بين «دولة وجماعة»، ويشخّص الدولة هنا السلطة الحاكمة التى لا ترى أن ثمة حلاً لهذه الظاهرة التى أصابت الجسد الوطنى سوى البتر، وبالتالى تحمل فى وجهها السلاح، انطلاقاً من أن هذه الجماعات تناوئ السلطة بالسلاح، ومؤكد أن سلاح الدولة أشد فتكاً وأن انتصارها عليها مهما طال الأمد يكاد يكون مضموناً، ولا تجد عبر تاريخ المواجهات بين «الدولة والجماعة» أى محاولات للاحتواء السياسى، لأن تاريخ السياسة فى الوجدان الإسلامى يكاد يكون بلا ملامح، فالمسلمون اجتهدوا فى شتى العلوم المتعلقة بالقرآن الكريم، وكذلك فى العديد من علوم الدنيا، التاريخ يشهد على ذلك، لكن التاريخ يشهد أيضاً أن باب السياسة لم يكن مطروقاً بالدرجة الكافية لدى العقل المسلم، ولو أنك حاولت أن تتذكر كتاباً أبدعه المسلمون فى السياسة، فقد يكون بمقدورك، فى أقصى تقدير، استدعاء عنوان كتاب أو اثنين، لأن التاريخ الإسلامى تاريخ «سلاح» أكثر منه تاريخ «سياسة».
اندثر تنظيم الحشاشين، كما اندثر تنظيم الفنية العسكرية، والجهاد، والجماعة الإسلامية، وكما سيندثر تنظيم الإخوان، وتنظيم داعش، وغيرهما، لكن «فكرة حمل السلاح فى وجه السلطة» ستظل باقية ما بقيت الأجواء والظروف القادرة على احتضانها، فوجود المظالم واستخدام أساليب القهر والقمع كفيل بإنتاج جماعات السيف فى كل زمان ومكان، ولو فرضنا أن وجود المظالم هو الأمر الشائع فى دنيا الإنسان، فإن ظهور أو اختفاء جماعات السيف يرتبط بوجود قيادة قادرة على حشد وتنظيم الأتباع حول فكرة المظلومية، ولديها المهارة فى الحصول على مصادر للتمويل، وتتمتع بالرؤية والمنهجية التى تمكنها من تدريب الكوادر والعناصر التى انضمت إليها على القيام بعمليات اغتيال سياسى، إن وجدت هذه القيادة نشأت بالتبعية «جماعة سيف» تخوض جولة جديدة ضد السلطة القائمة التى تؤمن هى الأخرى بالسلاح، أكثر مما تؤمن بالسياسة، لتتمكن، بعد أن يلحق بالواقع خسائر عديدة ومتنوعة، من القضاء عليها، وتهدأ الأمور حتى حين، إلى أن تظهر قيادة جديدة، وهكذا تتواصل حلقات الدائرة المغلقة التى لن نستطيع الخروج منها إلا عندما نستوعب أن «السياسة» خير للناس من «السلاح»!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق