السبت، 11 يوليو 2015

عناقيد الغضب .. ( 21 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

اللعب بالرؤوس فى طرقات حلب
الحلم بالتمدد إلى أراض جديدة سمة مميزة لكافة جماعات السيف، فهى تبادر، بعد أن ترسخ أقدامها فى مكان معين، إلى تمديد دعوتها إلى مواقع أخرى لخلق أطراف جديدة للجماعة، ترتبط بالمركز، تلك واحدة من القواعد الأساسية التى استند إليها الحسن الصباح، بعد أن استقر به الحال داخل قلعة «آلموت»، كان من الطبيعى فى هذا السياق أن يضع «الصباح» عينيه على الشام، خصوصاً أن له سابقة دعوة فيها، حين مر عليها خلال رحلة هروبه من القاهرة المعزية، قصبة الديار المصرية، واجتهد فى دعوة الشوام إلى تأييد «الإسماعيلية النزارية»، وكان الكثير من أهلها مهيئين لاستقبال هذه الدعوة، أخذ «الصباح» يرسل دعاته إلى سوريا من أجل تنظيم وقيادة «النزاريين» هناك، وساهم تقاطر الموجات الصليبية على بيت المقدس، وتفكك الدولة الفاطمية فى مصر، فى منح «النزاريين» الشوام مساحة أكبر للتحرك والعمل، فبدأوا يخططون للعمل بذات المنهجية ونفس الطريقة التى استند إليها «الصباح» فى تأسيس دويلة «آلموت»، وذلك من خلال البحث عن القلاع الحصينة وتوظيفها كنقاط انطلاق لمناوءة الخصوم، والاعتماد على فرق الاغتيالات فى تصفية الأعداء، ولم يكن تحقيق هذا الهدف من السهولة، شأن تجربة قلعة «آلموت» بجبال فارس، بل استغرق الأمر عدة عقود حتى تمكن الحشاشون من الاستيلاء على مجموعة من القلاع، كان من أهمها قلعة «مصياف».
كان المشهد فى الشام -وقت ظهور الحشاشين- يتسم بقدر كبير من التنافر الذى يسمح لأى جماعة تجيد اللعب على المتناقضات بالنجاح فى تحقيق أهدافها، وارتبط جوهر التنافر بوجود ثلاث ممالك بالشام، على رأس كل منها أمير يحلم بالزحف إلى المملكتين الأخريين والسيطرة عليهما، كان الأمير «رضوان» أميراً على حلب، وأخوه «دقماق» أميراً على دمشق، وزوج أمه «جناح الدولة» أميراً على حمص، تمكن الحشاشون من التسلل إلى أكثر الأمراء الثلاثة طمعاً فى السيطرة والاستحواذ، وهو الأمير «رضوان» صاحب حلب، وأقنعوه ببناء مركز للإسماعيلية، وكان لهم ما أرادوا، فبدأوا فى التحرك دون قيود داخل الشام، بعد أن كانوا يعيشون فى خوف من بطش السلاجقة، ساند «رضوان» الحشاشين طمعاً فى أن يساعدوه فى السيطرة على مجمل الشام، فاستغلوا ذلك، وجعلوا من «حلب» مركزاً لدعوتهم فى هذه المنطقة. يقول «ابن الأثير»: «وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد، وكان يميل إليه، فحسن له مذاهب العلويين المصريين، وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم، ويبذلون له المال، وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق، فخطب لهم بشيزر، وجميع الأعمال سوى أنطاكية، وحلب، والمعرة، أربع جمع، ثم حضر عنده سقمان بن أرتق، وباغى سيان، صاحب أنطاكية، فأنكرا ذلك واستعظماه، فأعاد الخطبة العباسية فى هذه السنة، وأرسل إلى بغداد يعتذر مما كان منه».
من الواضح طبقاً للرواية السابقة أن «رضوان» -شأنه شأن الحكام الطموحين فى كل زمان ومكان- كان شخصاً حالماً، يميل إلى تقريب كل من يزين له حلمه، ويقنعه بقدرته على الوصول إليه، حتى ولو كان منجماً، كما امتاز بالقدرة على التلاعب بالعناصر المحيطة به، فى سبيل تحقيق طموحاته، فتراوحت علاقته بكل الأطراف ما بين الصعود والهبوط تبعاً لمصالحه، سواء كانوا أمراء يحكمون إمارات مجاورة له، أو سلطة الخلافة فى بغداد، أو جماعة الحشاشين، كان «رضوان» حريصاً على استخدام الجميع من أجل تحقيق أهدافه، وقد وظف الحشاشين بشكل أساسى فى تصفية خصومه السياسيين، وكان أهم خصم استطاع التخلص منه فى هذا السياق على يد هذه الجماعة هو زوج أمه «جناح الدولة» أمير «حمص»، الذى رفض انغماسه مع «الإسماعيليين»، وترك الفرصة لهم لبث دعوتهم داخل الشام. يقول «ابن الأثير» حول اغتيال «جناح الدولة»: «قتله باطنى بالمسجد الجامع، فقيل: إن الملك رضوان ربيبه وضع عليه من قتله»، ورغم الإنجازات التى حققها الإسماعيليون فى الشام، فإنهم لم يتمكنوا من إخضاع أهلها، وتعرضوا للعديد من المذابح، سواء على يد أمراء المدن الشامية المختلفة، أو على يد الأهالى.
وفى مواجهة تعثر الدعوة «الحشيشية» بالشام تم اتخاذ قرار فى قلعة آلموت بإرسال أبوطاهر الفارسى، ليساعد الحشاشين على السيطرة على إحدى القلاع الجبلية لجعلها نقطة انطلاق لدولتهم فى الشام، لكن رحلته لم تكن ناجحة، وانتهز «رضوان» فرصة فشله لينقلب على الحشاشين ويعمل فيهم آلة القتل، وبعد موت «رضوان» حدثت مذابح عظيمة ضد الجماعة، كان من بين ضحاياها أبوالفتح بن أبى طاهر الفارسى، إذ تم قتله على يد الجماهير، ومثلوا بجثته، وطافوا برأسه فى طرقات حلب، ظل الحشاشون بعد ذلك فى حالة صعود وهبوط حتى ظهر الداعية الداهية «راشد الدين سنان»، وكان دوره فى بناء دولة للحشاشين فى الشام مشابهاً إلى حد كبير لدور الحسن الصباح فى بلاد فارس، إذ استطاع أن يجمع الإسماعيليين من حوله، ولقب أيضاً بـ«شيخ الجبل»، ومكث حيناً فى قلعة «الكهف»، ثم انتقل منها بعد حين إلى قلعة «مصياف»، وسلحها وضاعف من تحصيناتها، لتصبح معادلاً موضوعياً لقلعة «آلموت».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق