( ابن نجية ) ينقذ ( صلاح الدين ) من مؤامرة كبرى
وجد «صلاح الدين» نفسه فى مأزق، عندما علم أن «نورالدين» لم يقتنع بحديثه عن وجود مؤامرة شيعية تحاك ضده فى مصر، وتقتضى منه العودة إليها حتى لا ترجع البلاد إلى الحظيرة الفاطمية. ولما سمع عن عزم «نورالدين» المجىء إليه بمصر، جمع أهله، وفيهم أبوه نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمى، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم «نورالدين» وحركته إليه -كما يحكى «ابن الأثير»- واستشارهم، فلم يجبه أحد بكلمة واحدة، فقام تقى الدين عمر ابن أخى صلاح الدين فقال: إذا جاءنا قاتلناه، ومنعناه عن البلاد؛ ووافقه غيره من أهلهم، فشتم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك، واستعظمه، وشتم تقى الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثر محبة لك من جميع ما ترى، ووالله لو رأيت أنا وخالك نور الدين، لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنك بغيرنا؟. وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده، لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه بها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا؛ والرأى أن تكتب كتاباً إليه، تقول فيه: بلغنى بأنك تريد الحركة لأجل البلاد، فأى حاجة إلى هذا؟. يرسل المولى نجاباً يضع فى رقبتى منديلاً ويأخذنى إليك، وما ها هنا من يمنع عليك. وقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا، فلما خلا أيوب بصلاح الدين قال له: بأى عقل فعلت هذا؟. أما تعلم أن «نورالدين» إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه، وحينئذ لا تقوى به؟. وأما الآن، إذا بلغه ما جرى وطاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا؛ والأقدار تعمل عملها. والله لو أراد «نورالدين» قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل.
تشير المحاورة السابقة إلى أن العائلة الأيوبية كانت راسخة القدم فى المجال السياسى، وكان ذلك واحداً من أسرار قدرتها على الوصول إلى السلطة فى مصر والرسوخ فوق كرسيها، واتخاذها نقطة انطلاق لتحقيق العديد من الأمجاد السياسية والعسكرية فى الشام. كان الناصر «صلاح الدين» يضع السلطة نصب عينيه، ويناور بكل السبل للحفاظ عليها، حتى لو اضطره ذلك إلى التعامل مع خصومه من أبناء المذهب «الإسماعيلى» الذى قضى عليه فى مصر، أو ألزمه بتأجيل بعض مشروعاته وطموحاته العسكرية. لم يكن من السهولة بمكان أن يقع «صلاح الدين» فى فخ عداء خاسر مع «نور الدين محمود» المتسلطن على الشام، الذى كان يملك خلعه عن ملك مصر حين يشاء، لم يكن ذلك ممكناً وإلى جواره داهية مثل أبيه «نجم الدين أيوب» الذى يفهم جيداً فى شئون القصور، وكيفية تسريب أسرارها إلى الخصوم، لذلك نجده يرفض رفضاً قاطعاً التجرؤ -ولو بالكلام- على «نورالدين»، ويؤكد أنه وابنه سوف يذهبان إليه طائعين، ويريحانه من مؤنة المجىء لإخراج صلاح الدين من مصر، رغم أنه كان يضمر له كراهية شديدة إلى حد أن قال لولده «صلاح الدين»: «والله لو أراد نورالدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل». إنها السياسة التى لا تعرف العداءات المطلقة أو الصداقات المطلقة، هى السياسة التى لا تعرف سوى المصالح الدائمة. وقد نجحت حيلة «نجم الدين أيوب» فى تبريد غضب «نورالدين محمود» ليستقر وضع صلاح الدين على كرسى الحكم.
أنقذ الحس السياسى المرهف لصلاح الدين العرش مرة أخرى من خطر لم يكن مصدره الشام، بل مصر نفسها، وذلك فى المؤامرة العلوية التى دبرها مجموعة من الشيعة الإسماعيلية فى مصر، من بينهم -كما يروى ابن الأثير- عمارة بن أبى الحسن اليمنى الشاعر، وعبدالصمد الكاتب، والقاضى العويرس، وداعى الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر، على شىء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، وخرج إليهم صلاح الدين بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر، وأعادوا الدولة العلوية، لكن تم إحباط المؤامرة على يد الأمير زين الدين على بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، الذى انضم لهم، ولم تعجبه خلافاتهم على المناصب قبل الوصول إلى الحكم، فوشى بهم إلى صلاح الدين، فطلب منه الأخير أن يجاريهم ويبلغه بما عزموا عليه من خطوات، وانتهى الأمر بالقبض عليهم وصلبهم، ويشير «ابن الأثير» إلى ذلك قائلاً: «فقام صلاح الدين وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم، ونودى فى أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصى الصعيد، واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله. كانت تلك المؤامرة من أكثر المؤامرات إحكاماً على صلاح الدين، إذ شارك فيها مدنيون وعسكريون، ومصريون وأجانب، لكن الاكتشاف المبكر لها، على يد «ابن نجية»، مكّن صلاح الدين من إدارتها بدرجة كبيرة من الحذق السياسى، لينجو منها على يد «ابن نجية»!.
وجد «صلاح الدين» نفسه فى مأزق، عندما علم أن «نورالدين» لم يقتنع بحديثه عن وجود مؤامرة شيعية تحاك ضده فى مصر، وتقتضى منه العودة إليها حتى لا ترجع البلاد إلى الحظيرة الفاطمية. ولما سمع عن عزم «نورالدين» المجىء إليه بمصر، جمع أهله، وفيهم أبوه نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمى، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم «نورالدين» وحركته إليه -كما يحكى «ابن الأثير»- واستشارهم، فلم يجبه أحد بكلمة واحدة، فقام تقى الدين عمر ابن أخى صلاح الدين فقال: إذا جاءنا قاتلناه، ومنعناه عن البلاد؛ ووافقه غيره من أهلهم، فشتم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك، واستعظمه، وشتم تقى الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثر محبة لك من جميع ما ترى، ووالله لو رأيت أنا وخالك نور الدين، لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنك بغيرنا؟. وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده، لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه بها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا؛ والرأى أن تكتب كتاباً إليه، تقول فيه: بلغنى بأنك تريد الحركة لأجل البلاد، فأى حاجة إلى هذا؟. يرسل المولى نجاباً يضع فى رقبتى منديلاً ويأخذنى إليك، وما ها هنا من يمنع عليك. وقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا، فلما خلا أيوب بصلاح الدين قال له: بأى عقل فعلت هذا؟. أما تعلم أن «نورالدين» إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه، وحينئذ لا تقوى به؟. وأما الآن، إذا بلغه ما جرى وطاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا؛ والأقدار تعمل عملها. والله لو أراد «نورالدين» قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل.
تشير المحاورة السابقة إلى أن العائلة الأيوبية كانت راسخة القدم فى المجال السياسى، وكان ذلك واحداً من أسرار قدرتها على الوصول إلى السلطة فى مصر والرسوخ فوق كرسيها، واتخاذها نقطة انطلاق لتحقيق العديد من الأمجاد السياسية والعسكرية فى الشام. كان الناصر «صلاح الدين» يضع السلطة نصب عينيه، ويناور بكل السبل للحفاظ عليها، حتى لو اضطره ذلك إلى التعامل مع خصومه من أبناء المذهب «الإسماعيلى» الذى قضى عليه فى مصر، أو ألزمه بتأجيل بعض مشروعاته وطموحاته العسكرية. لم يكن من السهولة بمكان أن يقع «صلاح الدين» فى فخ عداء خاسر مع «نور الدين محمود» المتسلطن على الشام، الذى كان يملك خلعه عن ملك مصر حين يشاء، لم يكن ذلك ممكناً وإلى جواره داهية مثل أبيه «نجم الدين أيوب» الذى يفهم جيداً فى شئون القصور، وكيفية تسريب أسرارها إلى الخصوم، لذلك نجده يرفض رفضاً قاطعاً التجرؤ -ولو بالكلام- على «نورالدين»، ويؤكد أنه وابنه سوف يذهبان إليه طائعين، ويريحانه من مؤنة المجىء لإخراج صلاح الدين من مصر، رغم أنه كان يضمر له كراهية شديدة إلى حد أن قال لولده «صلاح الدين»: «والله لو أراد نورالدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل». إنها السياسة التى لا تعرف العداءات المطلقة أو الصداقات المطلقة، هى السياسة التى لا تعرف سوى المصالح الدائمة. وقد نجحت حيلة «نجم الدين أيوب» فى تبريد غضب «نورالدين محمود» ليستقر وضع صلاح الدين على كرسى الحكم.
أنقذ الحس السياسى المرهف لصلاح الدين العرش مرة أخرى من خطر لم يكن مصدره الشام، بل مصر نفسها، وذلك فى المؤامرة العلوية التى دبرها مجموعة من الشيعة الإسماعيلية فى مصر، من بينهم -كما يروى ابن الأثير- عمارة بن أبى الحسن اليمنى الشاعر، وعبدالصمد الكاتب، والقاضى العويرس، وداعى الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر، على شىء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، وخرج إليهم صلاح الدين بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر، وأعادوا الدولة العلوية، لكن تم إحباط المؤامرة على يد الأمير زين الدين على بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، الذى انضم لهم، ولم تعجبه خلافاتهم على المناصب قبل الوصول إلى الحكم، فوشى بهم إلى صلاح الدين، فطلب منه الأخير أن يجاريهم ويبلغه بما عزموا عليه من خطوات، وانتهى الأمر بالقبض عليهم وصلبهم، ويشير «ابن الأثير» إلى ذلك قائلاً: «فقام صلاح الدين وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم، ونودى فى أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصى الصعيد، واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله. كانت تلك المؤامرة من أكثر المؤامرات إحكاماً على صلاح الدين، إذ شارك فيها مدنيون وعسكريون، ومصريون وأجانب، لكن الاكتشاف المبكر لها، على يد «ابن نجية»، مكّن صلاح الدين من إدارتها بدرجة كبيرة من الحذق السياسى، لينجو منها على يد «ابن نجية»!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق