الأحد، 5 يوليو 2015

عناقيد الغضب .. ( 14 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

الحيلة والغيلة فى مقتل ( نظام الملك )
كان موقع «نظام الملك» لدى السلاطين السلاجقة مكيناً، فمكث فى موقع الوزير الأعظم تسعاً وعشرين عاماً، وانتشر أبناؤه وأحفاده فى أخطر المناصب والمواقع داخل الدولة. يقول ابن كثير فى ترجمته لـنظام الملك: «هو الحسن بن على بن إسحاق أبوعلى، وُزّر للملك ألب أرسلان وولده ملكشاه. كان من خيار الوزراء، قرأ القرآن وله إحدى عشرة سنة، وأشغله أبوه بالعلم والقراءات، والتفقه على مذهب الشافعى، وسماع الحديث واللغة والنحو، وكان عالى الهمة فحصل من ذلك طرفاً صالحاً، ثم ترقى فى المراتب، حتى وُزّر للسلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ثم من بعد لملكشاه. بنى المدارس النظامية ببغداد ونيسابور وغيرهما، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء، بحيث يقضى معهم غالب نهاره، فقيل له: إن هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: «هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسى لما استكثرت ذلك».
كان «نظام الملك» وزيراً محنكاً وعسكرياً قديراً، ولو صحت العبارة التى نسبت إليه وقال فيها عن الحسن الصباح: «قريباً يضل هذا الرجل ضعفاء العوام»، فإنها تنهض كدليل على ما تمتع به من فراسة وقدرة عالية على قراءة الشخصيات وتحليلها. وقد كانت هذه العبارة مدخلاً لاتهام «الحسن الصباح» باغتياله، من منطلق أن الأخير أراد الانتقام منه، لأنه كان سبباً فى خروجه من بلاط الحكم السلجوقى. ومن الطبيعى جداً أن يغار أى شخص يتمتع بالطموح السياسى الذى تمتع به الحسن الصباح من شخصية فى حجم «نظام الملك» الذى حظى بمنزلة كبيرة لدى السلاطين السلاجقة، ولم يكن بمقدور أى منهم الاستغناء عنه، ورغم ذلك فإننا لا نستطيع أن نحسم بشكل قاطع أن فرق الاغتيال التابعة لـ«الحسن الصباح» هى المسئول الأول عن اغتياله.
يحكى «ابن كثير» قصة اغتيال «نظام الملك» قائلاً: «خرج نظام الملك مع السلطان من أصبهان قاصداً بغداد فى مستهل رمضان، فلما كان اليوم العاشر اجتاز فى بعض طريقه بقرية بالقرب من نهاوند وهو يسايره فى محفة، فقال: قد قتل ههنا خلق من الصحابة زمن عمر، فطوبى لمن يكون عندهم، فاتفق أنه لما أفطر جاءه صبى فى هيئة مستغيث به ومعه قصة، فلما انتهى إليه ضربه بسكين فى فؤاده وهرب، وعثر بطنب الخيمة فأُخذ فقتل، ومكث الوزير ساعة، وجاءه السلطان يعوده فمات وهو عنده، وقد اتهم السلطان فى أمره أنه هو الذى مالأ عليه، فلم تطل مدته بعده سوى خمسة وثلاثين يوماً، وكان فى ذلك عبرة لأولى الألباب، وكان قد عزم على إخراج الخليفة أيضاً من بغداد فما تم له ما عزم عليه، ولما بلغ أهل بغداد موت النظام حزنوا عليه». وفى المقابل من رواية «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» حول واقعة اغتيال «نظام الملك»، أشار «ابن الأثير» - فى الكامل فى التاريخ- صراحة إلى أن من نفذ عملية الاغتيال فى «نظام الملك» هو صبى من الباطنية، ويقول فى ذلك: «بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج فى محفته إلى خيمة حرمه -يقصد نظام الملك- أتاه صبى ديلمى من الباطنية، فى صورة مستميح، أو مستغيث، فضربه بسكين كان معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة، فأدركوه فقتلوه، وركب السلطان إلى خيمته، فسكن عسكره وأصحابه».
وربما كانت تلك الإشارة إلى أن الصبى الذى اغتال «نظام الملك» من «الباطنية» هى التى بررت للبعض الذهاب إلى أن «الحسن الصباح» هو من خطط وأشرف على تنفيذ عملية اغتيال «نظام الملك»، على أساس أن الصبى كان من الباطنية، ووصف الباطنية كان أحد الأوصاف التى ينعت بها أتباع المذهب الإسماعيلى، كما أن الطريقة التى اغتيل بها الوزير والتى تستند إلى الحيلة والغيلة فى التخلص منه تؤشر أيضاً إلى أن قاتله ينتمى إلى فرق الاغتيال بقلعة «آلموت»، لكن كتب التاريخ تحكى -فى المقابل- أن أصل اغتيال «نظام الملك» ارتبط بإحساس السلطان السلجوقى بالغضب جراء تمدد نفوذه بالدولة، بعد أن أحكم قبضته عليها من خلال تعيين أبنائه وأحفاده فى مواقع الوزارة والحكم. يشير «ابن الأثير» إلى أن عثمان بن جمال الملك (حفيد نظام الملك) كان قد ولاه جده رئاسة مرو، وأرسل السلطان إليها واحداً من أكبر مماليكه، ومن أعظم الأمراء فى دولته، فجرى بينه وبين «عثمان» منازعة فى شىء، فحملت «عثمان» حداثة سنه، وتمكنه، وطمعه بجده، على أن قبض عليه، وأذله، ثم أطلقه، فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً، فأرسل السلطان إلى «نظام الملك» رسالة يقول له فيها: إن كنت شريكى فى الملك، ويدك مع يدى فى السلطنة، فلذلك حكم، وإن كنت نائبى، وبحكمى، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة، وولى ولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا. فرد «نظام الملك» على السلطان قائلاً: «إن كنت ما علمت أنى شريكك فى الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيرى ورأيى»، فاغتاظ السلطان لهذا الرد ووقع التدبير على نظام الملك، حتى تم عليه من القتل ما تم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق