الاثنين، 6 يوليو 2015

عناقيد الغضب .. ( 19 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

اقـتـلوا كـل مـن قـدرتـم عليه .. وخـذوا مـالـه
رغم انحياز قطاع شعبى كبير للخطاب الرافض لـ«الحشاشين» وفكرهم، كانت عمليات الاغتيال الدقيقة والحاذقة التى قام بها أتباع الحسن الصباح مصدر إبهار لقطاع لا بأس به من البسطاء من أبناء الشعوب، وتحفيزهم على الانضمام إلى فرق الاغتيالات التى مثّلت فى نظر البعض إحدى صور البطولة، خصوصاً عندما كانت عمليات الاغتيال تتوجه إلى وزراء ورجال دولة يُسرفون فى ظلم الأهالى. فالشعوب بطبيعتها تنبهر بالأعمال الكبرى التى تعجز بشكل ذاتى عن الإتيان بها، حتى ولو تمثلت هذه الأعمال فى قتل الآخرين، أو الإجادة فى الاحتيال عليهم لإيقاعهم فى فخ الموت، أو القدرة على الهروب والتفلُّت من العقاب. فالشعوب بطبيعتها تميل إلى تمجيد البطولة بغضّ النظر عن مضمونها، وهو ما استفاد منه «الحشاشون» فى جذب كوادر جديدة للانضمام إليهم.
خاض السلطان السلجوقى «سنجر بن ملكشاه» المعركة تلو الأخرى ضد «الحشاشين» أتباع الحسن الصباح، بعد أن كثرت وتوالت ضربات الفدائيين للأمراء السلاجقة ورجال دولتهم، لكن الضربات المتتالية من جانب السلاجقة لم تفلح فى القضاء على الفدائيين وفرق الموت والاغتيالات، الأمر الذى اضطر السلطان السلجوقى «سنجر» إلى مهادنة الإسماعيليين وعقد صلح معهم، بعد أن استيقظ من نومه ذات يوم فوجد خنجراً إلى جوار فراشه، وبغضّ النظر عن دقة هذه الرواية، فإن الملك بدأ يصاب بقدر كبير من الفزع، ويشعر بأن الخطر آخذ فى الاقتراب منه بشكل شخصى، ولم يجد مناصاً من التفاوض مع الحسن الصباح والتصالح معه اتقاء لشره، خصوصاً أنه لعب بكل ما يملك من أدوات مع «شيخ الجبل» دون جدوى، وكان آخرها الرسالة التى بعث بها إليه.
وكان «ملكشاه» قد أرسل رسالة إلى الحسن الصباح يهدده ويتوعده فيها قائلاً: «أنت حسن صباح قد أظهرت ديناً وملةّ جديدة، فأغريت الناس وخرجت على ولىّ عصرك، فجمعت حولك بعض سكان الجبال، ثم أغويتهم بكلامك حتى حملتهم على قتل الناس، وطعنت فى الخلفاء العباسيين الذين هم خلفاء الإسلام، وبهم استحكم قوام الملك والملّة، ونظام الدين والدولة، فعليك أن ترجع عن هذه الضلالة وتكون مسلماً، وإلا فقد عينت لك جيوشاً وأرجأت توجهها، حتى تجىء إلينا أنت وجوابك. وحذار حذار على نفسك ونفوس تابعيك، فارحمها ولا تلقها فى ورطة الهلاك، ولا تغتر باستحكام قلاعك، ولتعتقد حقيقة أن قلعة (الموت) المستحكمة لو كانت برجاً من بروج السماء لجعلتها أرضاً يباباً، ولساويتها مع التراب بعناية الله تعالى». سطور هذه الرسالة تكشف حالة الضعف والاهتزاز التى اتسم بها خطاب «سنجر» فى مواجهة «الصباح»، فرغم ما فيها من عبارات تهديد ووعيد، فإنها كانت تحتشد بمعانى الخوف الكامن من الجبل، وقلعة الجبل، وشيخ الجبل، ولو كان «سنجر» يمتلك بالفعل القدرة على القضاء عسكرياً على «الصباح»، لفعلها، ولما كان بحاجة إلى التهديد بذلك فى رسالة، ولما كان سلاحه الأبرز فى المواجهة هو الدعاية السلبية وصياغة الأساطير حول خصومه من الحشاشين، لحشد العوام فى الحرب ضدهم.
ويحكى «ابن كثير» حكاية عجيبة فى هذا المقام، تبين لك الصورة التى كانت السلطة تحاول رسمها للحشاشين من أتباع الحسن الصباح، يقول فيها: «لما دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنية، فقتل السلطان منهم خلقاً كثيراً، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة، ونودى فيهم إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله، وكانوا قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأول قلعة ملكوها فى سنة ثلاث وثمانين، وكان الذى ملكها الحسن بن صباح، وكان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها، ثم صار إلى تلك النواحى ببلاد أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبياً جاهلاً لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز (الحبة السوداء) حتى يحرف مزاجه، ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة الضلال أنهم ظُلموا وُمنعوا حقهم الذى أوجبه الله لهم ورسوله، ثم يقول له فإذا كانت الخوارج تقاتل بنى أمية لعلى، فأنت أحق أن تقاتل فى نصرة إمامك على بن أبى طالب، ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه، حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات (السحر) والحيل التى لا تروج إلا على الجهال، حتى التفّ عليه بشر كثير وجمع غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده وينهاه عن ذلك، وبعث إليه بفتاوى العلماء، فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حوله من الشباب: إنى أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولاه فاشرأبت وجوه الحاضرين ثم قال لشاب منهم اقتل نفسك، فأخرج سكيناً فضرب بها غلصمته (حلقومه)، فسقط ميتاً، وقال لآخر منهم: ألق نفسك من هذا الموضع فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطع، ثم قال لرسول السلطان: هذا الجواب! فمنها امتنع السلطان من مراسلته». يلخص «ابن كثير» فى هذه الرواية رؤية عصره والسلطة السائدة فى ذلك العصر لتنظيم الحشاشين والأبعاد الفكرية والموضوعية التى حكمت مسألة بناء الصورة السلبية لهذا التنظيم لدى الشعوب القائمة حينذاك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق