صلاح الدين يترك قتال الصليبين ليحافظ على عرش مصر
لم يسكت الحشاشون عن صلاح الدين بعد فشل محاولتهم الأولى لاغتياله أثناء حصاره لقلعة حلب، فحاولوا اغتياله مرة ثانية خلال حصاره لقلعة «إعزاز». يحكى «ابن الأثير» تفاصيل هذه الواقعة قائلاً: «لما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز، فنازلها ثالث ذى القعدة، وهى من أحصن القلاع وأمنعها، فنازلها وحاصرها، وأحاط بها وضيق على من فيها ونصب عليها المجانيق، وقُتل عليها كثير من العسكر؛ فبينما صلاح الدين يوماً فى خيمة لبعض أمرائه يقال له جاولى، وهو مقدم الطائفة الأسدية، إذ وثب عليه باطنى فضربه بسكين فى رأسه فجرحه، فلولا أن المغفر (درع واق للرأس) كانت تحت القلنسوة لقتله، فأمسك صلاح الدين يد الباطنى بيده، إلا لأنه لم يقدر على منعه من الضرب بالكلية، إنما يضرب ضرباً ضعيفاً، فبقى الباطنى يضربه فى رقبته بالسكين، وكان عليه كزاغند (غطاء الصدر الذى يلبسه المحاربون) فكانت الضربات تقع فى زيق الكزاغند فتقطعه، والزرد (أى الدرع) يمنعها من الوصول إلى رقبته، لبعد أجله، فجاء أمير من أمرائه اسمه يازكش، فأمسك السكين بكفه فجرحه الباطنى، ولم يطلقها من يده إلى أن قتل الباطنى، وجاء آخر من الإسماعيلية فقتل أيضاً، وثالث فقُتل، وركب صلاح الدين إلى خيمته كالمذعور لا يصدق بنجاته، ثم اعتبر (فرز) جنده، فمن أنكره أبعده، ومن عرفه أقره على خدمته».
هذه المحاولة لاغتيال «صلاح الدين» على يد الحشاشين اختلفت عن سابقتها، فقد كانت أشد شراسة، إذ استطاع القاتل أن يقترب من عنق ورأس صلاح الدين، لكن دخول أحد الأمراء «يازكش» وانقضاضه على «الباطنى» أدى إلى إفشال المهمة، ونجاة السلطان من القتل، ليركب صلاح الدين إلى خيمته مذعوراً، على حد تعبير «ابن الأثير». ولم يسع «الحشاشون» إلى حصد أموال أو الحصول على ثمن مقابل هذه المحاولة التى يمكن القول بأنها جاءت فى إطار الصراعات السياسية والعسكرية للسيطرة على الشام، والتى كان لها أطراف ثلاثة تمثلت فى: الحشاشين، وصلاح الدين، والغزاة الصليبيين، وقد يقول قائل إن الطرفين السنى والشيعى (الحشاشون وصلاح الدين) كانا يتحدان فى الأغلب فى مواجهة العدو الصليبى، وهذا الكلام غير دقيق، وقد رأيت كيف أن الشيخ «سنان» رفض اغتيال «ريتشارد» ملك انجلترا، رغم قدرته على ذلك، خوفاً من أن يخلى الطريق أمام صلاح الدين للسيطرة على الشام، والتحول إلى الحشاشين بعد الانتهاء من الصليبيين. وقد كان صلاح الدين يؤدى بنفس الطريقة، فكان يُقدم ويُحجم عن خوض الصراعات العسكرية مع الصليبيين تبعاً لمقتضيات المصلحة، ومتطلبات الاستمرار على كرسى الحكم. يذكر «ابن الأثير» أن «صلاح الدين خرج إلى بلاد الفرنج غازياً، ونازل حصن الشوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيق على من به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك. فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصداً بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نورالدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونورالدين من جانب، ملكها، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نورالدين، وإن جاء نورالدين إليك وأنت هاهنا، فلا بد لك من الاجتماع به، وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء، إن شاء تركك وإن شاء عزلك، فقد لا تقدر على الامتناع عليه؛ والمصلحة الرجوع إلى مصر. فرحل عن الشوبك عائداً إلى مصر».
رفع صلاح الدين حصاره عن الصليبيين وأفسح لهم الطريق حتى لا يسمح لنورالدين محمود الذى وضعه على رأس السلطة فى مصر، بالسيطرة على الشام، فعل ذلك رغم أن قتال الصليبيين كان قضيته الكبرى، كما تحكى كتب التاريخ، ويبدو أن الأمر لم يكن كذلك بصورة مطلقة، إذ كانت قضية الحكم تشغل حيزاً لا بأس به من اهتمام صلاح الدين، يدل على ذلك أنه عندما قرر الانسحاب من «الشوبك» بعد السيطرة عليها والعودة إلى مصر، كتب إلى نور الدين محمود يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض الشيعة العلويين هناك، وأنهم عازمون على الوثوب بها، وأنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوى أهلها على من تخلف بها، وأن يخرجوهم وتعود ممتنعة، وأطال الاعتذار، فلم يقبل نور الدين اعتذاره، وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها».
كان التمحك بشيعة مصر الذين ينتظرون اللحظة المواتية للانقضاض على الحكم الحجة الأقرب التى حاول صلاح الدين التذرع بها لتبرير انسحابه أمام الصليبيين، وعدم تمكين نورالدين محمود من الإطباق عليهم، وهى حجة لم تقنع «نورالدين»، لأن صلاح الدين كان ربيبه وكان يفهمه جيداً، ويعلم أن الذى صرفه عن الاستمرار فى محاصرة «شوبك» هو الخوف من تمكن «نورالدين» من رقبته، بعد أن يتمكن من الصليبيين، وليس بسبب الفتنة العلوية التى تتهدده فى مصر، لذلك فقد عزم السلطان «نورالدين» على إخراجه من مصر وعزله من الحكم بالقوة.
لم يسكت الحشاشون عن صلاح الدين بعد فشل محاولتهم الأولى لاغتياله أثناء حصاره لقلعة حلب، فحاولوا اغتياله مرة ثانية خلال حصاره لقلعة «إعزاز». يحكى «ابن الأثير» تفاصيل هذه الواقعة قائلاً: «لما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز، فنازلها ثالث ذى القعدة، وهى من أحصن القلاع وأمنعها، فنازلها وحاصرها، وأحاط بها وضيق على من فيها ونصب عليها المجانيق، وقُتل عليها كثير من العسكر؛ فبينما صلاح الدين يوماً فى خيمة لبعض أمرائه يقال له جاولى، وهو مقدم الطائفة الأسدية، إذ وثب عليه باطنى فضربه بسكين فى رأسه فجرحه، فلولا أن المغفر (درع واق للرأس) كانت تحت القلنسوة لقتله، فأمسك صلاح الدين يد الباطنى بيده، إلا لأنه لم يقدر على منعه من الضرب بالكلية، إنما يضرب ضرباً ضعيفاً، فبقى الباطنى يضربه فى رقبته بالسكين، وكان عليه كزاغند (غطاء الصدر الذى يلبسه المحاربون) فكانت الضربات تقع فى زيق الكزاغند فتقطعه، والزرد (أى الدرع) يمنعها من الوصول إلى رقبته، لبعد أجله، فجاء أمير من أمرائه اسمه يازكش، فأمسك السكين بكفه فجرحه الباطنى، ولم يطلقها من يده إلى أن قتل الباطنى، وجاء آخر من الإسماعيلية فقتل أيضاً، وثالث فقُتل، وركب صلاح الدين إلى خيمته كالمذعور لا يصدق بنجاته، ثم اعتبر (فرز) جنده، فمن أنكره أبعده، ومن عرفه أقره على خدمته».
هذه المحاولة لاغتيال «صلاح الدين» على يد الحشاشين اختلفت عن سابقتها، فقد كانت أشد شراسة، إذ استطاع القاتل أن يقترب من عنق ورأس صلاح الدين، لكن دخول أحد الأمراء «يازكش» وانقضاضه على «الباطنى» أدى إلى إفشال المهمة، ونجاة السلطان من القتل، ليركب صلاح الدين إلى خيمته مذعوراً، على حد تعبير «ابن الأثير». ولم يسع «الحشاشون» إلى حصد أموال أو الحصول على ثمن مقابل هذه المحاولة التى يمكن القول بأنها جاءت فى إطار الصراعات السياسية والعسكرية للسيطرة على الشام، والتى كان لها أطراف ثلاثة تمثلت فى: الحشاشين، وصلاح الدين، والغزاة الصليبيين، وقد يقول قائل إن الطرفين السنى والشيعى (الحشاشون وصلاح الدين) كانا يتحدان فى الأغلب فى مواجهة العدو الصليبى، وهذا الكلام غير دقيق، وقد رأيت كيف أن الشيخ «سنان» رفض اغتيال «ريتشارد» ملك انجلترا، رغم قدرته على ذلك، خوفاً من أن يخلى الطريق أمام صلاح الدين للسيطرة على الشام، والتحول إلى الحشاشين بعد الانتهاء من الصليبيين. وقد كان صلاح الدين يؤدى بنفس الطريقة، فكان يُقدم ويُحجم عن خوض الصراعات العسكرية مع الصليبيين تبعاً لمقتضيات المصلحة، ومتطلبات الاستمرار على كرسى الحكم. يذكر «ابن الأثير» أن «صلاح الدين خرج إلى بلاد الفرنج غازياً، ونازل حصن الشوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيق على من به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك. فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصداً بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نورالدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونورالدين من جانب، ملكها، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نورالدين، وإن جاء نورالدين إليك وأنت هاهنا، فلا بد لك من الاجتماع به، وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء، إن شاء تركك وإن شاء عزلك، فقد لا تقدر على الامتناع عليه؛ والمصلحة الرجوع إلى مصر. فرحل عن الشوبك عائداً إلى مصر».
رفع صلاح الدين حصاره عن الصليبيين وأفسح لهم الطريق حتى لا يسمح لنورالدين محمود الذى وضعه على رأس السلطة فى مصر، بالسيطرة على الشام، فعل ذلك رغم أن قتال الصليبيين كان قضيته الكبرى، كما تحكى كتب التاريخ، ويبدو أن الأمر لم يكن كذلك بصورة مطلقة، إذ كانت قضية الحكم تشغل حيزاً لا بأس به من اهتمام صلاح الدين، يدل على ذلك أنه عندما قرر الانسحاب من «الشوبك» بعد السيطرة عليها والعودة إلى مصر، كتب إلى نور الدين محمود يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض الشيعة العلويين هناك، وأنهم عازمون على الوثوب بها، وأنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوى أهلها على من تخلف بها، وأن يخرجوهم وتعود ممتنعة، وأطال الاعتذار، فلم يقبل نور الدين اعتذاره، وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها».
كان التمحك بشيعة مصر الذين ينتظرون اللحظة المواتية للانقضاض على الحكم الحجة الأقرب التى حاول صلاح الدين التذرع بها لتبرير انسحابه أمام الصليبيين، وعدم تمكين نورالدين محمود من الإطباق عليهم، وهى حجة لم تقنع «نورالدين»، لأن صلاح الدين كان ربيبه وكان يفهمه جيداً، ويعلم أن الذى صرفه عن الاستمرار فى محاصرة «شوبك» هو الخوف من تمكن «نورالدين» من رقبته، بعد أن يتمكن من الصليبيين، وليس بسبب الفتنة العلوية التى تتهدده فى مصر، لذلك فقد عزم السلطان «نورالدين» على إخراجه من مصر وعزله من الحكم بالقوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق