مـذبـحـة الـمـيـدان
كل ما له بداية لا بد أن تكون له نهاية، وكلما صعدت ظاهرة معينة كان ذلك نذيراً بانحدارها ولو بعد حين، وقد بدأت تجربة الحشاشين قوية ناهضة فى بدايات تدشينها على يد الحسن الصباح، الرجل الذى استطاع بلورة الفكرة والتنظيم، فصاغ خطاباً سياسياً ودعوياً يتحلق حول فكرة المظلومية التى وقعت على «الإسماعيلية النزارية»، وأسس عليها رؤية لم تزل باقية فى الوجدان المسلم، وتربط بين «المظلومية» و«حمل السلاح» فى وجه الخصوم، وتغطية الأهداف السياسية بشعارات دينية، والاعتماد على «الاغتيال السياسى» كوسيلة للسيطرة، وكأداة للارتزاق فى بعض الأحوال. يقول «برنارد لويس»، فى كتابه «الحشاشون»: «ونجد فى قائمة الشرف التى تحوى اغتيالات الحشاشين التى عُثر عليها بقلعة آلموت حوالى 50 حالة أثناء حكم الحسن الصباح، تبدأ بالوزير نظام الملك، وأكثر من نصف هؤلاء الضحايا ينتمون إلى هذه الفترة». هذا العدد (50 حالة) الذى يتحدث عنه «برنارد» ليس بالعدد الكبير بالطبع، إذا أخذنا فى الاعتبار أن الحسن الصباح عاش (35 عاماً)، ويعنى هذا الرقم أن «الصباح»، خلافاً لدعاة حمل السلاح من بعده، كان يحتاط أشد الاحتياط فى القتل، وأن سلاح الاغتيال فى عصره كان يتوجه بشكل محدد نحو الخصوم السياسيين، أو الشخصيات التى يقبض التنظيم ثمن اغتيالها، سواء كان الثمن مالاً أو تمكيناً لهم داخل أروقة الدولة السلجوقية، ولم تكن الخناجر تتوجه بحال إلى الأهالى العاديين.
وقد استطاع الحشاشون الاقتراب من بلاط الحكم السلجوقى فى عهد السلطان «بركيارق بن ملكشاه»، ساعدهم على ذلك دعمهم له، فى مواجهة منافسيه على السلطة، وقد زرع هذا التحول لدى بعضهم إحساساً بالتمكين، وشعروا أن الجميع يخشاهم، بعد أن أصبحوا يتجولون فى قصر الحكم كما يشاءون، وقد كان القادة والأمراء يخشون الحشاشين بالفعل أشد الخشية خلال هذه الفترة. يصف «ابن الأثير» حالة التمدد والتمكن التى حظى بها الحشاشون حينذاك قائلاً: «فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمداً، وقُتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعة منهم -أى الحشاشين- فى العسكر، واستغووا كثيراً منهم، وأدخلوهم فى مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالفهم، حتى إنهم لم يتجاسر أحد منهم، لا أمير ولا متقدم، على الخروج من منزله حاسراً، بل يلبس تحت ثيابه درعاً، حتى إن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس زردية (درعاً) تحت ثيابه، واستأذن السلطان بركيارق خواصُه فى الدخول عليه بسلاحهم، وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم، فأذن لهم فى ذلك». لقد بلغ الخوف من الحشاشين مبلغه لدى الكبار، وهذا ما تستوعب أغلب جماعات السيف خطورته، حين تشعر أن الزمان أعطاها وجهه، فتجدها تفتقر إلى الحكمة فى تهذيب طموحاتها فى السيطرة والاستحواذ، فتكون عاقبتها خسارة كل شىء، والتعرض لمذابح ومجازر على يد سلطة الدولة التى يسهل عليها فى كل زمان ومكان الاستبداد بأى جماعة أياً كانت درجة قوتها.
نشطت حاشية السلطان «بركيارق» فى تحذيره من حالة التمدد التى حظى بها الحشاشون داخل بلاط حكمه، وأقنعوه بحقهم فى حمل السلاح، دفاعاً عن أنفسهم ضد محاولات الاغتيال التى يقومون بها. ويشير «ابن الأثير» إلى أنهم أشاروا عليه أن يفتك بهم، قبل أن يعجز عن تلافى أمرهم، وأعلموه ما يتهمه به الناس من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك، ويقولون يا باطنية، فاجتمعت هذه البواعث كلها، فأذن السلطان فى قتلهم، والفتك بهم، وركب هو والعسكر معه، وطلبوهم، وأخذوا جماعة من خيامهم، ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف، وأُخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقُتلوا، وقُتل منهم جماعة براء لم يكونوا منهم، سعى بهم أعداؤهم. العبارات التى استخدمها «ابن الأثير» تدلل على أن مذبحة الميدان كانت مروعة، وأنه لم يفلت منها أحد من الحشاشين، بل ويقول المؤرخ العربى الشهير إن جماعة من الأبرياء لقوا حتفهم فى هذه المذبحة، وما أكثر ما يقع ذلك حين تنشب السلطة مخالبها فى وجه جماعة كانت تتسكع فى أروقتها بالأمس، إنها تتعامل فى هذه الحالة بدرجة واضحة من القسوة، وكأنها تعاقب على تاريخ كامل وليس على واقعة بذاتها أو فترة زمنية بعينها، لذلك تجد أن من الوارد جداً أن تسقط دماء بريئة فى خضم العقاب، وذلك ما تعرض له البعض فى مذبحة الميدان التى تمت فى حق جماعة الحشاشين.
تعرضت الجماعة بعد هذه المذبحة لنكسة كبيرة، ولم يعد لديها القدرة على العمل، بما فى ذلك مجموعات «الفداوية»، وظل الحال على ذلك فترة من الوقت، حتى استعادت نشاطها وقدرتها، وبدأت الدولة السلجوقية تخوض معها صراعاً طويل الأمد، وتراوح حال حملة السيف من الحشاشين ما بين الانتصار حيناً، والانكسار فى أحيان، وكانت بداية النهاية بوفاة المؤسس الأول للجماعة «الحسن الصباح» بعد أن مرض مرضاً شديداً، فأخذ منحنى القوة لدى الحشاشين يهبط إلى أسفل، نعم كان يعلو أحياناً، ولكن ليس كثيراً، حتى وضع التتار نهاية هذا التنظيم عندما اجتاحوا قلاعه، وأنهوا وجوده التنظيمى داخل بلاد فارس، وجعلوه مجرد صفحة من صفحات تاريخ الاغتيال السياسى.
كل ما له بداية لا بد أن تكون له نهاية، وكلما صعدت ظاهرة معينة كان ذلك نذيراً بانحدارها ولو بعد حين، وقد بدأت تجربة الحشاشين قوية ناهضة فى بدايات تدشينها على يد الحسن الصباح، الرجل الذى استطاع بلورة الفكرة والتنظيم، فصاغ خطاباً سياسياً ودعوياً يتحلق حول فكرة المظلومية التى وقعت على «الإسماعيلية النزارية»، وأسس عليها رؤية لم تزل باقية فى الوجدان المسلم، وتربط بين «المظلومية» و«حمل السلاح» فى وجه الخصوم، وتغطية الأهداف السياسية بشعارات دينية، والاعتماد على «الاغتيال السياسى» كوسيلة للسيطرة، وكأداة للارتزاق فى بعض الأحوال. يقول «برنارد لويس»، فى كتابه «الحشاشون»: «ونجد فى قائمة الشرف التى تحوى اغتيالات الحشاشين التى عُثر عليها بقلعة آلموت حوالى 50 حالة أثناء حكم الحسن الصباح، تبدأ بالوزير نظام الملك، وأكثر من نصف هؤلاء الضحايا ينتمون إلى هذه الفترة». هذا العدد (50 حالة) الذى يتحدث عنه «برنارد» ليس بالعدد الكبير بالطبع، إذا أخذنا فى الاعتبار أن الحسن الصباح عاش (35 عاماً)، ويعنى هذا الرقم أن «الصباح»، خلافاً لدعاة حمل السلاح من بعده، كان يحتاط أشد الاحتياط فى القتل، وأن سلاح الاغتيال فى عصره كان يتوجه بشكل محدد نحو الخصوم السياسيين، أو الشخصيات التى يقبض التنظيم ثمن اغتيالها، سواء كان الثمن مالاً أو تمكيناً لهم داخل أروقة الدولة السلجوقية، ولم تكن الخناجر تتوجه بحال إلى الأهالى العاديين.
وقد استطاع الحشاشون الاقتراب من بلاط الحكم السلجوقى فى عهد السلطان «بركيارق بن ملكشاه»، ساعدهم على ذلك دعمهم له، فى مواجهة منافسيه على السلطة، وقد زرع هذا التحول لدى بعضهم إحساساً بالتمكين، وشعروا أن الجميع يخشاهم، بعد أن أصبحوا يتجولون فى قصر الحكم كما يشاءون، وقد كان القادة والأمراء يخشون الحشاشين بالفعل أشد الخشية خلال هذه الفترة. يصف «ابن الأثير» حالة التمدد والتمكن التى حظى بها الحشاشون حينذاك قائلاً: «فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمداً، وقُتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعة منهم -أى الحشاشين- فى العسكر، واستغووا كثيراً منهم، وأدخلوهم فى مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالفهم، حتى إنهم لم يتجاسر أحد منهم، لا أمير ولا متقدم، على الخروج من منزله حاسراً، بل يلبس تحت ثيابه درعاً، حتى إن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس زردية (درعاً) تحت ثيابه، واستأذن السلطان بركيارق خواصُه فى الدخول عليه بسلاحهم، وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم، فأذن لهم فى ذلك». لقد بلغ الخوف من الحشاشين مبلغه لدى الكبار، وهذا ما تستوعب أغلب جماعات السيف خطورته، حين تشعر أن الزمان أعطاها وجهه، فتجدها تفتقر إلى الحكمة فى تهذيب طموحاتها فى السيطرة والاستحواذ، فتكون عاقبتها خسارة كل شىء، والتعرض لمذابح ومجازر على يد سلطة الدولة التى يسهل عليها فى كل زمان ومكان الاستبداد بأى جماعة أياً كانت درجة قوتها.
نشطت حاشية السلطان «بركيارق» فى تحذيره من حالة التمدد التى حظى بها الحشاشون داخل بلاط حكمه، وأقنعوه بحقهم فى حمل السلاح، دفاعاً عن أنفسهم ضد محاولات الاغتيال التى يقومون بها. ويشير «ابن الأثير» إلى أنهم أشاروا عليه أن يفتك بهم، قبل أن يعجز عن تلافى أمرهم، وأعلموه ما يتهمه به الناس من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك، ويقولون يا باطنية، فاجتمعت هذه البواعث كلها، فأذن السلطان فى قتلهم، والفتك بهم، وركب هو والعسكر معه، وطلبوهم، وأخذوا جماعة من خيامهم، ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف، وأُخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقُتلوا، وقُتل منهم جماعة براء لم يكونوا منهم، سعى بهم أعداؤهم. العبارات التى استخدمها «ابن الأثير» تدلل على أن مذبحة الميدان كانت مروعة، وأنه لم يفلت منها أحد من الحشاشين، بل ويقول المؤرخ العربى الشهير إن جماعة من الأبرياء لقوا حتفهم فى هذه المذبحة، وما أكثر ما يقع ذلك حين تنشب السلطة مخالبها فى وجه جماعة كانت تتسكع فى أروقتها بالأمس، إنها تتعامل فى هذه الحالة بدرجة واضحة من القسوة، وكأنها تعاقب على تاريخ كامل وليس على واقعة بذاتها أو فترة زمنية بعينها، لذلك تجد أن من الوارد جداً أن تسقط دماء بريئة فى خضم العقاب، وذلك ما تعرض له البعض فى مذبحة الميدان التى تمت فى حق جماعة الحشاشين.
تعرضت الجماعة بعد هذه المذبحة لنكسة كبيرة، ولم يعد لديها القدرة على العمل، بما فى ذلك مجموعات «الفداوية»، وظل الحال على ذلك فترة من الوقت، حتى استعادت نشاطها وقدرتها، وبدأت الدولة السلجوقية تخوض معها صراعاً طويل الأمد، وتراوح حال حملة السيف من الحشاشين ما بين الانتصار حيناً، والانكسار فى أحيان، وكانت بداية النهاية بوفاة المؤسس الأول للجماعة «الحسن الصباح» بعد أن مرض مرضاً شديداً، فأخذ منحنى القوة لدى الحشاشين يهبط إلى أسفل، نعم كان يعلو أحياناً، ولكن ليس كثيراً، حتى وضع التتار نهاية هذا التنظيم عندما اجتاحوا قلاعه، وأنهوا وجوده التنظيمى داخل بلاد فارس، وجعلوه مجرد صفحة من صفحات تاريخ الاغتيال السياسى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق