الخميس، 16 يوليو 2015

عناقيد الغضب .. ( 29 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

تاريخ المسلمين .. تاريخ ( سلاح ) وليس ( سياسة )
رحلة طويلة خاضتها جماعة الحشاشين، منذ أن سيطر الحسن الصباح على قلعة آلموت، وحتى اندثار هذا التنظيم بدويلاته المختلفة فى فارس والشام، على يد المغول والمماليك، تحلل التنظيم واتجهت الأجيال الجديدة من الإسماعيلية النزارية إلى العمل الاقتصادى، وحاولت الابتعاد قدر الإمكان عن العمل السياسى، لكن ذلك لم يمنعها من تجسير صلتها بصناع القرار داخل دول العالم الإسلامى المختلفة، من خلال التبرعات والأعمال الخيرية، وغير ذلك من أمور، لكنها فى المجمل العام تابت عن العمل التنظيمى، وأصبحت فكرة العمل المسلح وفرق الاغتيال السياسى جزءاً من تاريخها، لكن يبقى أن ذهاب التنظيم لا يعنى زوال الفكرة، أقصد فكرة العمل المسلح، التى تجد لنفسها أرضاً خصبة فى الكثير من بلاد المسلمين، وما زالت الجماعات التى تؤمن بحمل السلاح فى وجه الحكومات، واستخدام الاغتيال كوسيلة لتصفية الخصوم السياسيين قائمة وموجودة.
وإذا كانت مصر قد شهدت مولد فكرة العمل المسلح على يد جماعة الحشاشين أواخر العصر الفاطمى، فما زال هذا البلد بيئة حاضنة لظهور مثل هذه الجماعات التى لم يعان منها مجتمع كما عانى المجتمع المصرى، فقد شهد التاريخ القريب ميلاد جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، التى لجأت إلى إنشاء جهاز خاص، يقوم بنفس الدور الذى كانت تقوم به فرق «الفداوية» الحشيشية فى تصفية الخصوم السياسيين بالسلاح، وفى الوقت الذى كان يقوم فيه الجهاز بذلك، لم تتباطأ كوادره عن المشاركة فى الحرب المقدسة التى خاضها العرب ضد العصابات الصهيونية عام 1948، والتى انتهت بقيام دولة إسرائيل، تماماً مثلما كان الحشاشون يقاومون الاحتلال الصليبى لبيت المقدس، ولا يتورعون بعد ذلك عن القيام بعمليات الاغتيال السياسى، ومن رحم الجهاز الخاص فى الإخوان خرجت العديد من عناقيد الغضب التى خاضت صراعاً مسلحاً ضد النظام الحاكم فى مصر بعد ثورة يوليو 1952، فى هذا السياق نستطيع أن نذكر محاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر على يد الجهاز الخاص عام 1954، ثم تنظيم المرحوم سيد قطب عام 1965، الذى اتهم أيضاً بمحاولة اغتيال الرئيس وهدم نظام الدولة، تواتر بعد ذلك ظهور العديد من التنظيمات العنقودية على الساحة المصرية، كان من أبرزها تنظيم الفنية العسكرية الذى قاده صالح سرية، وحاول أعضاؤه اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1974، ثم كان تنظيم التكفير والهجرة بزعامة شكرى مصطفى الذى نجح فى اغتيال الدكتور محمد حسين الذهبى وزير الأوقاف الأسبق عام 1977، ثم تنظيم الجهاد الذى أسسه الدكتور عمر عبدالرحمن وتزعمه المهندس عبدالسلام فرج، ونجحت إحدى مجموعاته، المكونة من خالد الإسلامبولى وحسين عباس وعطا طايل حميدة، فى اغتيال الرئيس السادات فى حادث المنصة الشهير عام 1981.
فى كل الأحوال كانت تهمة «السعى إلى هدم الدولة المصرية» حاضرة وبقوة فى سجل الاتهامات الموجهة إلى كل هذه التنظيمات، مثلما كانت تهمة «السعى إلى هدم الدولة السلجوقية» توجه بصورة أساسية إلى جماعة «الحشاشين»، فالمواجهة دائماً بين «دولة وجماعة»، ويشخّص الدولة هنا السلطة الحاكمة التى لا ترى أن ثمة حلاً لهذه الظاهرة التى أصابت الجسد الوطنى سوى البتر، وبالتالى تحمل فى وجهها السلاح، انطلاقاً من أن هذه الجماعات تناوئ السلطة بالسلاح، ومؤكد أن سلاح الدولة أشد فتكاً وأن انتصارها عليها مهما طال الأمد يكاد يكون مضموناً، ولا تجد عبر تاريخ المواجهات بين «الدولة والجماعة» أى محاولات للاحتواء السياسى، لأن تاريخ السياسة فى الوجدان الإسلامى يكاد يكون بلا ملامح، فالمسلمون اجتهدوا فى شتى العلوم المتعلقة بالقرآن الكريم، وكذلك فى العديد من علوم الدنيا، التاريخ يشهد على ذلك، لكن التاريخ يشهد أيضاً أن باب السياسة لم يكن مطروقاً بالدرجة الكافية لدى العقل المسلم، ولو أنك حاولت أن تتذكر كتاباً أبدعه المسلمون فى السياسة، فقد يكون بمقدورك، فى أقصى تقدير، استدعاء عنوان كتاب أو اثنين، لأن التاريخ الإسلامى تاريخ «سلاح» أكثر منه تاريخ «سياسة».
اندثر تنظيم الحشاشين، كما اندثر تنظيم الفنية العسكرية، والجهاد، والجماعة الإسلامية، وكما سيندثر تنظيم الإخوان، وتنظيم داعش، وغيرهما، لكن «فكرة حمل السلاح فى وجه السلطة» ستظل باقية ما بقيت الأجواء والظروف القادرة على احتضانها، فوجود المظالم واستخدام أساليب القهر والقمع كفيل بإنتاج جماعات السيف فى كل زمان ومكان، ولو فرضنا أن وجود المظالم هو الأمر الشائع فى دنيا الإنسان، فإن ظهور أو اختفاء جماعات السيف يرتبط بوجود قيادة قادرة على حشد وتنظيم الأتباع حول فكرة المظلومية، ولديها المهارة فى الحصول على مصادر للتمويل، وتتمتع بالرؤية والمنهجية التى تمكنها من تدريب الكوادر والعناصر التى انضمت إليها على القيام بعمليات اغتيال سياسى، إن وجدت هذه القيادة نشأت بالتبعية «جماعة سيف» تخوض جولة جديدة ضد السلطة القائمة التى تؤمن هى الأخرى بالسلاح، أكثر مما تؤمن بالسياسة، لتتمكن، بعد أن يلحق بالواقع خسائر عديدة ومتنوعة، من القضاء عليها، وتهدأ الأمور حتى حين، إلى أن تظهر قيادة جديدة، وهكذا تتواصل حلقات الدائرة المغلقة التى لن نستطيع الخروج منها إلا عندما نستوعب أن «السياسة» خير للناس من «السلاح»!

الأربعاء، 15 يوليو 2015

عناقيد الغضب .. ( 28 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

خـتـام الـرحـلـة .. الـقـاتـل الأجــيـر
مات «الحسن الصباح» أول من لُقّب بـ«شيخ الجبل»، وورثه فى هذا اللقب، كما ذكرت لك، الشيخ «راشد الدين سنان»، وإليه يعود الفضل فى إعادة إنتاج تجربة «آلموت» فى قلاع «مصياف» و«الخوابى» و«العليقة»، ليجعل منها نقطة انطلاق لتأسيس دولة الحشاشين فى الشام، وقد مكث «سنان» فى الحكم مدة تقارب، إلى حد كبير، المدة التى قضاها «الصباح» حاكماً لقلعة آلموت (35 عاماً)، وكان صلاح الدين الأيوبى هو أعدى أعداء الشيخ «سنان» بحكم عوامل كثيرة، من بينها الاختلاف المذهبى، واختلاف المصالح ما بين الطرفين، خصوصاً فيما يتعلق بالسيطرة على الشام، وهو ما كان يسعى إليه كل من صلاح الدين من ناحية، والحشاشون من ناحية أخرى، ولو على حساب «نور الدين محمود بن زنكى» والأمراء «الزنكيين» الذين خلفوه، ومع ذلك فقد كان صلاح الدين كثير اللجوء إلى «الحشاشين» لتنفيذ عمليات اغتيال يكلفهم بها، وتمثلت أخطر عملية اغتيال قام بها الحشاشون تحت زعامة الشيخ «سنان» فى اغتيال الماركيز «كونراد» ملك بيت المقدس، حين كان فى مدينة صور، ومن الملفت أن تجد أنهم رفضوا فى الوقت نفسه طلب صلاح الدين باغتيال «ريتشارد قلب الأسد» ملك إنجلترا، خوفاً من يهدأ بال السلطان من ناحية الصليبيين فيتفرغ للحشاشين، هكذا يرى «ابن كثير».
فى المجمل العام كان اغتيال الماركيز «كونراد» هو أخطر العمليات التى يحفل بها سجل اغتيالات الشيخ «سنان»، وكما بدأ الضعف يدب -بعد قوة ومنعة- فى صفوف الحشاشين بفارس عقب موت «الحسن الصباح»، حدث الأمر نفسه بالنسبة للحشاشين فى سوريا بعد وفاة الشيخ «رشاد الدين سنان»، فقد كان خلفاؤه أقل مهارة وقدرة منه، وأصبحوا يعملون تحت تبعية قلعة «آلموت»، وبعد أن سقطت القلعة وانتهت دويلة الحشاشين على أيدى المغول هناك، سارع الحشاشون بسوريا إلى إعلان خضوعهم التام للسلطان «بيبرس»، وقاتلوا التتار إلى جوار المسلمين، لكن السلطان لم يكن له أن يقبل استمرار «جيب النقمة» الحشيشى فى العمل داخل سوريا، ولم يكن لدى الحشاشين فى الشام -فى المقابل- أى قدرة على المقاومة بعد سقوط «آلموت»، فأصبح «بيبرس» يتحكم فيهم إلى حد أنه أصبح مسئولاً عن تعيين رؤسائهم وشيوخهم، وتحول أغلب «الحشاشين» إلى قتلة بالأجر فى عصر السلطان «بيبرس»، إذ كثيراً ما كان يستأجرهم المماليك لاغتيال وتصفية خصومهم السياسيين، فانتهت سيرتهم إلى مجرد «مرتزقة» يضعون قدرتهم على تنفيذ العمليات القذرة بين يدى من يدفع الثمن، وتحكى كتب التاريخ أن ثمن الدم كان يقبضه الحشاش إذا نفذ عملية الاغتيال المطلوبة ونجا من القتل بعدها، وإذا كانت الثانية وقُتل أو وقع فى الأسر كان المال يعطى لأسرته وورثته، لكن ذلك كله لم يشفع للحشاشين، إذ أُعملت فيهم يد القتل فى كل الاتجاهات، فبالغ السلطان «بيبرس» فى محاصرتهم ومطاردتهم فى سوريا، وارتكب المغول العديد من المذابح فى حقهم فى فارس، ولم يعد أمامهم سوى الهجرة والفرار، وترك القلاع والجبال والعيش بشكل سرى ومتخف وسط الناس، وكان ترك الحشاشين للقلاع والجبال إيذاناً بانتهاء رحلة حمل السلاح.
هاجر أغلب الحشاشين من بلاد فارس إلى الهند، وأصبح كل همهم المحافظة على حياتهم، والعيش كمواطنين مسالمين وسط غيرهم، وتركت الأجيال الجديدة منهم السياسة تماماً وبدأوا يتفرغون للأمور الاقتصادية، ويمارسون التجارة، وجنوا من وراء ذلك أرباحاً كثيرة، وبدلاً من الأئمة وكبار الفداوية بدأت تظهر أسماء العديد من الأغنياء بين أتباع الحشاشين، ومن ناحيتهم مارس الأغنياء بتصورات الأقلية التى تعيش فى قلب أغلبية تفوقها عدداً، وتجد أن الوسيلة الأبرز للقوة وللعيش بين الأغلبية هى المال، أما فقراء الحشاشين فقد حاولوا ممارسة الدعوة بين فقراء الهند والدول الأخرى التى هاجروا إليها، لكنهم لم يتمكنوا من تحقيق إنجاز ذى قيمة على هذا المستوى، بعد أن فقدت الفكرة زخمها، وعدمت وجود قيادات قادرة ومؤثرة، مثل الحسن الصباح أو الشيخ «سنان»، تجمع بين الزعامتين السياسية والروحية، كانت أسماء بعض الأئمة تظهر من حين إلى آخر، لكنها بقيت فى الأول والآخر مجرد قيادات روحية، تبتعد قدر المستطاع عن ممارسة أى أنشطة سياسية، وانتقل مقر الإمامة «النزارية» من فارس بشكل نهائى عندما غادر الإمام النزارى حسن على شاه أرض أجداده، وانتقل إلى الهند، واستقر بين أتباعه الذين هاجروا إلى هناك، وأصبح لقبه الرسمى هو «الأغا خان»، وهو اللقب الذى حصل عليه من أحد ملوك الفرس، وأصبح «الأغا خان» بعد ذلك هو اللقب الرسمى لأئمة النزارية بعد «حسن على شاه».
ومنذ ذلك الحين وحتى الآن أصبح أتباع الإسماعيلية النزارية يوصفون بأنهم «أتباع الأغا خان»، فى حين يطلق على «الإسماعيلية المستعلية» الموجودين الآن وصف «البهرة»، وكلتا الفرقتين أبعد ما يكون عن العمل السياسى فى الوقت الحالى، فأغلب نشاطاتها اقتصادية وخيرية، وتهتم طائفة البهرة بترميم مساجد آل بيت النبى صلى الله عليه وسلم، ورعايتها، وقد قامت رموز الطائفة بعدة زيارات لمصر، التقوا خلالها قيادات مصرية عديدة، وإليهم يعود الفضل فى تجديد ضريح السيدة زينب بنت على رضى الله عنها، وكذا ضريح الإمام الحسين رضى الله عنه بالقاهرة.

عناقيد الغضب .. ( 27 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

مـذبـحـة الـمـيـدان
كل ما له بداية لا بد أن تكون له نهاية، وكلما صعدت ظاهرة معينة كان ذلك نذيراً بانحدارها ولو بعد حين، وقد بدأت تجربة الحشاشين قوية ناهضة فى بدايات تدشينها على يد الحسن الصباح، الرجل الذى استطاع بلورة الفكرة والتنظيم، فصاغ خطاباً سياسياً ودعوياً يتحلق حول فكرة المظلومية التى وقعت على «الإسماعيلية النزارية»، وأسس عليها رؤية لم تزل باقية فى الوجدان المسلم، وتربط بين «المظلومية» و«حمل السلاح» فى وجه الخصوم، وتغطية الأهداف السياسية بشعارات دينية، والاعتماد على «الاغتيال السياسى» كوسيلة للسيطرة، وكأداة للارتزاق فى بعض الأحوال. يقول «برنارد لويس»، فى كتابه «الحشاشون»: «ونجد فى قائمة الشرف التى تحوى اغتيالات الحشاشين التى عُثر عليها بقلعة آلموت حوالى 50 حالة أثناء حكم الحسن الصباح، تبدأ بالوزير نظام الملك، وأكثر من نصف هؤلاء الضحايا ينتمون إلى هذه الفترة». هذا العدد (50 حالة) الذى يتحدث عنه «برنارد» ليس بالعدد الكبير بالطبع، إذا أخذنا فى الاعتبار أن الحسن الصباح عاش (35 عاماً)، ويعنى هذا الرقم أن «الصباح»، خلافاً لدعاة حمل السلاح من بعده، كان يحتاط أشد الاحتياط فى القتل، وأن سلاح الاغتيال فى عصره كان يتوجه بشكل محدد نحو الخصوم السياسيين، أو الشخصيات التى يقبض التنظيم ثمن اغتيالها، سواء كان الثمن مالاً أو تمكيناً لهم داخل أروقة الدولة السلجوقية، ولم تكن الخناجر تتوجه بحال إلى الأهالى العاديين.
وقد استطاع الحشاشون الاقتراب من بلاط الحكم السلجوقى فى عهد السلطان «بركيارق بن ملكشاه»، ساعدهم على ذلك دعمهم له، فى مواجهة منافسيه على السلطة، وقد زرع هذا التحول لدى بعضهم إحساساً بالتمكين، وشعروا أن الجميع يخشاهم، بعد أن أصبحوا يتجولون فى قصر الحكم كما يشاءون، وقد كان القادة والأمراء يخشون الحشاشين بالفعل أشد الخشية خلال هذه الفترة. يصف «ابن الأثير» حالة التمدد والتمكن التى حظى بها الحشاشون حينذاك قائلاً: «فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمداً، وقُتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعة منهم -أى الحشاشين- فى العسكر، واستغووا كثيراً منهم، وأدخلوهم فى مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالفهم، حتى إنهم لم يتجاسر أحد منهم، لا أمير ولا متقدم، على الخروج من منزله حاسراً، بل يلبس تحت ثيابه درعاً، حتى إن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس زردية (درعاً) تحت ثيابه، واستأذن السلطان بركيارق خواصُه فى الدخول عليه بسلاحهم، وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم، فأذن لهم فى ذلك». لقد بلغ الخوف من الحشاشين مبلغه لدى الكبار، وهذا ما تستوعب أغلب جماعات السيف خطورته، حين تشعر أن الزمان أعطاها وجهه، فتجدها تفتقر إلى الحكمة فى تهذيب طموحاتها فى السيطرة والاستحواذ، فتكون عاقبتها خسارة كل شىء، والتعرض لمذابح ومجازر على يد سلطة الدولة التى يسهل عليها فى كل زمان ومكان الاستبداد بأى جماعة أياً كانت درجة قوتها.
نشطت حاشية السلطان «بركيارق» فى تحذيره من حالة التمدد التى حظى بها الحشاشون داخل بلاط حكمه، وأقنعوه بحقهم فى حمل السلاح، دفاعاً عن أنفسهم ضد محاولات الاغتيال التى يقومون بها. ويشير «ابن الأثير» إلى أنهم أشاروا عليه أن يفتك بهم، قبل أن يعجز عن تلافى أمرهم، وأعلموه ما يتهمه به الناس من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك، ويقولون يا باطنية، فاجتمعت هذه البواعث كلها، فأذن السلطان فى قتلهم، والفتك بهم، وركب هو والعسكر معه، وطلبوهم، وأخذوا جماعة من خيامهم، ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف، وأُخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقُتلوا، وقُتل منهم جماعة براء لم يكونوا منهم، سعى بهم أعداؤهم. العبارات التى استخدمها «ابن الأثير» تدلل على أن مذبحة الميدان كانت مروعة، وأنه لم يفلت منها أحد من الحشاشين، بل ويقول المؤرخ العربى الشهير إن جماعة من الأبرياء لقوا حتفهم فى هذه المذبحة، وما أكثر ما يقع ذلك حين تنشب السلطة مخالبها فى وجه جماعة كانت تتسكع فى أروقتها بالأمس، إنها تتعامل فى هذه الحالة بدرجة واضحة من القسوة، وكأنها تعاقب على تاريخ كامل وليس على واقعة بذاتها أو فترة زمنية بعينها، لذلك تجد أن من الوارد جداً أن تسقط دماء بريئة فى خضم العقاب، وذلك ما تعرض له البعض فى مذبحة الميدان التى تمت فى حق جماعة الحشاشين.
تعرضت الجماعة بعد هذه المذبحة لنكسة كبيرة، ولم يعد لديها القدرة على العمل، بما فى ذلك مجموعات «الفداوية»، وظل الحال على ذلك فترة من الوقت، حتى استعادت نشاطها وقدرتها، وبدأت الدولة السلجوقية تخوض معها صراعاً طويل الأمد، وتراوح حال حملة السيف من الحشاشين ما بين الانتصار حيناً، والانكسار فى أحيان، وكانت بداية النهاية بوفاة المؤسس الأول للجماعة «الحسن الصباح» بعد أن مرض مرضاً شديداً، فأخذ منحنى القوة لدى الحشاشين يهبط إلى أسفل، نعم كان يعلو أحياناً، ولكن ليس كثيراً، حتى وضع التتار نهاية هذا التنظيم عندما اجتاحوا قلاعه، وأنهوا وجوده التنظيمى داخل بلاد فارس، وجعلوه مجرد صفحة من صفحات تاريخ الاغتيال السياسى.

عناقيد الغضب .. ( 26 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

( ابن نجية ) ينقذ ( صلاح الدين ) من مؤامرة كبرى
وجد «صلاح الدين» نفسه فى مأزق، عندما علم أن «نورالدين» لم يقتنع بحديثه عن وجود مؤامرة شيعية تحاك ضده فى مصر، وتقتضى منه العودة إليها حتى لا ترجع البلاد إلى الحظيرة الفاطمية. ولما سمع عن عزم «نورالدين» المجىء إليه بمصر، جمع أهله، وفيهم أبوه نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمى، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم «نورالدين» وحركته إليه -كما يحكى «ابن الأثير»- واستشارهم، فلم يجبه أحد بكلمة واحدة، فقام تقى الدين عمر ابن أخى صلاح الدين فقال: إذا جاءنا قاتلناه، ومنعناه عن البلاد؛ ووافقه غيره من أهلهم، فشتم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك، واستعظمه، وشتم تقى الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثر محبة لك من جميع ما ترى، ووالله لو رأيت أنا وخالك نور الدين، لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنك بغيرنا؟. وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده، لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه بها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا؛ والرأى أن تكتب كتاباً إليه، تقول فيه: بلغنى بأنك تريد الحركة لأجل البلاد، فأى حاجة إلى هذا؟. يرسل المولى نجاباً يضع فى رقبتى منديلاً ويأخذنى إليك، وما ها هنا من يمنع عليك. وقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا، فلما خلا أيوب بصلاح الدين قال له: بأى عقل فعلت هذا؟. أما تعلم أن «نورالدين» إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه، وحينئذ لا تقوى به؟. وأما الآن، إذا بلغه ما جرى وطاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا؛ والأقدار تعمل عملها. والله لو أراد «نورالدين» قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل.
تشير المحاورة السابقة إلى أن العائلة الأيوبية كانت راسخة القدم فى المجال السياسى، وكان ذلك واحداً من أسرار قدرتها على الوصول إلى السلطة فى مصر والرسوخ فوق كرسيها، واتخاذها نقطة انطلاق لتحقيق العديد من الأمجاد السياسية والعسكرية فى الشام. كان الناصر «صلاح الدين» يضع السلطة نصب عينيه، ويناور بكل السبل للحفاظ عليها، حتى لو اضطره ذلك إلى التعامل مع خصومه من أبناء المذهب «الإسماعيلى» الذى قضى عليه فى مصر، أو ألزمه بتأجيل بعض مشروعاته وطموحاته العسكرية. لم يكن من السهولة بمكان أن يقع «صلاح الدين» فى فخ عداء خاسر مع «نور الدين محمود» المتسلطن على الشام، الذى كان يملك خلعه عن ملك مصر حين يشاء، لم يكن ذلك ممكناً وإلى جواره داهية مثل أبيه «نجم الدين أيوب» الذى يفهم جيداً فى شئون القصور، وكيفية تسريب أسرارها إلى الخصوم، لذلك نجده يرفض رفضاً قاطعاً التجرؤ -ولو بالكلام- على «نورالدين»، ويؤكد أنه وابنه سوف يذهبان إليه طائعين، ويريحانه من مؤنة المجىء لإخراج صلاح الدين من مصر، رغم أنه كان يضمر له كراهية شديدة إلى حد أن قال لولده «صلاح الدين»: «والله لو أراد نورالدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل». إنها السياسة التى لا تعرف العداءات المطلقة أو الصداقات المطلقة، هى السياسة التى لا تعرف سوى المصالح الدائمة. وقد نجحت حيلة «نجم الدين أيوب» فى تبريد غضب «نورالدين محمود» ليستقر وضع صلاح الدين على كرسى الحكم.
أنقذ الحس السياسى المرهف لصلاح الدين العرش مرة أخرى من خطر لم يكن مصدره الشام، بل مصر نفسها، وذلك فى المؤامرة العلوية التى دبرها مجموعة من الشيعة الإسماعيلية فى مصر، من بينهم -كما يروى ابن الأثير- عمارة بن أبى الحسن اليمنى الشاعر، وعبدالصمد الكاتب، والقاضى العويرس، وداعى الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر، على شىء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، وخرج إليهم صلاح الدين بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر، وأعادوا الدولة العلوية، لكن تم إحباط المؤامرة على يد الأمير زين الدين على بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، الذى انضم لهم، ولم تعجبه خلافاتهم على المناصب قبل الوصول إلى الحكم، فوشى بهم إلى صلاح الدين، فطلب منه الأخير أن يجاريهم ويبلغه بما عزموا عليه من خطوات، وانتهى الأمر بالقبض عليهم وصلبهم، ويشير «ابن الأثير» إلى ذلك قائلاً: «فقام صلاح الدين وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم، ونودى فى أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصى الصعيد، واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله. كانت تلك المؤامرة من أكثر المؤامرات إحكاماً على صلاح الدين، إذ شارك فيها مدنيون وعسكريون، ومصريون وأجانب، لكن الاكتشاف المبكر لها، على يد «ابن نجية»، مكّن صلاح الدين من إدارتها بدرجة كبيرة من الحذق السياسى، لينجو منها على يد «ابن نجية»!.

عناقيد الغضب .. ( 25 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

صلاح الدين يترك قتال الصليبين ليحافظ على عرش مصر
لم يسكت الحشاشون عن صلاح الدين بعد فشل محاولتهم الأولى لاغتياله أثناء حصاره لقلعة حلب، فحاولوا اغتياله مرة ثانية خلال حصاره لقلعة «إعزاز». يحكى «ابن الأثير» تفاصيل هذه الواقعة قائلاً: «لما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز، فنازلها ثالث ذى القعدة، وهى من أحصن القلاع وأمنعها، فنازلها وحاصرها، وأحاط بها وضيق على من فيها ونصب عليها المجانيق، وقُتل عليها كثير من العسكر؛ فبينما صلاح الدين يوماً فى خيمة لبعض أمرائه يقال له جاولى، وهو مقدم الطائفة الأسدية، إذ وثب عليه باطنى فضربه بسكين فى رأسه فجرحه، فلولا أن المغفر (درع واق للرأس) كانت تحت القلنسوة لقتله، فأمسك صلاح الدين يد الباطنى بيده، إلا لأنه لم يقدر على منعه من الضرب بالكلية، إنما يضرب ضرباً ضعيفاً، فبقى الباطنى يضربه فى رقبته بالسكين، وكان عليه كزاغند (غطاء الصدر الذى يلبسه المحاربون) فكانت الضربات تقع فى زيق الكزاغند فتقطعه، والزرد (أى الدرع) يمنعها من الوصول إلى رقبته، لبعد أجله، فجاء أمير من أمرائه اسمه يازكش، فأمسك السكين بكفه فجرحه الباطنى، ولم يطلقها من يده إلى أن قتل الباطنى، وجاء آخر من الإسماعيلية فقتل أيضاً، وثالث فقُتل، وركب صلاح الدين إلى خيمته كالمذعور لا يصدق بنجاته، ثم اعتبر (فرز) جنده، فمن أنكره أبعده، ومن عرفه أقره على خدمته».
هذه المحاولة لاغتيال «صلاح الدين» على يد الحشاشين اختلفت عن سابقتها، فقد كانت أشد شراسة، إذ استطاع القاتل أن يقترب من عنق ورأس صلاح الدين، لكن دخول أحد الأمراء «يازكش» وانقضاضه على «الباطنى» أدى إلى إفشال المهمة، ونجاة السلطان من القتل، ليركب صلاح الدين إلى خيمته مذعوراً، على حد تعبير «ابن الأثير». ولم يسع «الحشاشون» إلى حصد أموال أو الحصول على ثمن مقابل هذه المحاولة التى يمكن القول بأنها جاءت فى إطار الصراعات السياسية والعسكرية للسيطرة على الشام، والتى كان لها أطراف ثلاثة تمثلت فى: الحشاشين، وصلاح الدين، والغزاة الصليبيين، وقد يقول قائل إن الطرفين السنى والشيعى (الحشاشون وصلاح الدين) كانا يتحدان فى الأغلب فى مواجهة العدو الصليبى، وهذا الكلام غير دقيق، وقد رأيت كيف أن الشيخ «سنان» رفض اغتيال «ريتشارد» ملك انجلترا، رغم قدرته على ذلك، خوفاً من أن يخلى الطريق أمام صلاح الدين للسيطرة على الشام، والتحول إلى الحشاشين بعد الانتهاء من الصليبيين. وقد كان صلاح الدين يؤدى بنفس الطريقة، فكان يُقدم ويُحجم عن خوض الصراعات العسكرية مع الصليبيين تبعاً لمقتضيات المصلحة، ومتطلبات الاستمرار على كرسى الحكم. يذكر «ابن الأثير» أن «صلاح الدين خرج إلى بلاد الفرنج غازياً، ونازل حصن الشوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيق على من به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك. فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصداً بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نورالدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونورالدين من جانب، ملكها، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نورالدين، وإن جاء نورالدين إليك وأنت هاهنا، فلا بد لك من الاجتماع به، وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء، إن شاء تركك وإن شاء عزلك، فقد لا تقدر على الامتناع عليه؛ والمصلحة الرجوع إلى مصر. فرحل عن الشوبك عائداً إلى مصر».
رفع صلاح الدين حصاره عن الصليبيين وأفسح لهم الطريق حتى لا يسمح لنورالدين محمود الذى وضعه على رأس السلطة فى مصر، بالسيطرة على الشام، فعل ذلك رغم أن قتال الصليبيين كان قضيته الكبرى، كما تحكى كتب التاريخ، ويبدو أن الأمر لم يكن كذلك بصورة مطلقة، إذ كانت قضية الحكم تشغل حيزاً لا بأس به من اهتمام صلاح الدين، يدل على ذلك أنه عندما قرر الانسحاب من «الشوبك» بعد السيطرة عليها والعودة إلى مصر، كتب إلى نور الدين محمود يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض الشيعة العلويين هناك، وأنهم عازمون على الوثوب بها، وأنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوى أهلها على من تخلف بها، وأن يخرجوهم وتعود ممتنعة، وأطال الاعتذار، فلم يقبل نور الدين اعتذاره، وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها».
كان التمحك بشيعة مصر الذين ينتظرون اللحظة المواتية للانقضاض على الحكم الحجة الأقرب التى حاول صلاح الدين التذرع بها لتبرير انسحابه أمام الصليبيين، وعدم تمكين نورالدين محمود من الإطباق عليهم، وهى حجة لم تقنع «نورالدين»، لأن صلاح الدين كان ربيبه وكان يفهمه جيداً، ويعلم أن الذى صرفه عن الاستمرار فى محاصرة «شوبك» هو الخوف من تمكن «نورالدين» من رقبته، بعد أن يتمكن من الصليبيين، وليس بسبب الفتنة العلوية التى تتهدده فى مصر، لذلك فقد عزم السلطان «نورالدين» على إخراجه من مصر وعزله من الحكم بالقوة.

السبت، 11 يوليو 2015

عناقيد الغضب .. ( 24 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

المرتزقة وأصحاب المبدأ فى حلبة الاغتيال السياسى
تصف قصة مقتل القائد الصليبى «الماركيز كونراد» منهجية التعامل بين كل من شيخ الحشاشين بالشام «سنان» وصلاح الدين، فلم يكن صلاح الدين يتورع عن الاستعانة بالحشاشين، رغم عدائه وكيده لهم، ومحاربته لجماعتهم، حين كانت تقتضى المصلحة ذلك، وحين تتوافر الذريعة الأخلاقية التى تبرر التوجه نحوهم، ولم يكن شيخ الحشاشين يتلكأ عنه، ولكن طبقاً لحسابات المصالح أيضاً، وعندما طلب منه صلاح الدين قتل ملك «إنكلترا» وقتل «الماركيز»، قبل أن يقتل الثانى مقابل عشرة آلاف دينار، وضرب صفحاً عن قتل الأول، لأنه وجد فى قتل ريتشارد قلب الأسد تقوية ودعماً لصلاح الدين، وكسراً لشوكة الصليبيين، وكان يستوعب أن صلاح الدين الذى يطلب التعاون معه اليوم، سوف ينقلب عليه غداً إذا خلا وجهه من الفرنج، ليبدأ فى حربه. والمتأمل لطريقة اغتيال «الماركيز» على يد الحشاشين، يلاحظ إلى أى حد استفادت جماعة الشام من جماعة «آلموت» فى تخطيط وتنفيذ عمليات الاغتيال، فاحتالوا على قتله بالخدعة والتنكر فى صورة راهبين، وأطالا المكوث إلى جواره حتى اطمأن إليهما، ووثق بهما، وقتلاه بخطة محكمة.
نخلص مما سبق إلى أن «سنان» تعاون مع «صلاح الدين» فى إطار الممكن، ولم يستجب له فى الأمور التى تساهم فى التمكين له، لأنه كان يعلم أن صلاح الدين يمكن أن ينقلب عليه فى لحظة، ويبدو أن ذلك كان توجه «سنان» هو الآخر نحو صلاح الدين، إذا كان على استعداد للانقلاب عليه فى أى وقت، لأنه فى كل الأحوال لم ينس الدور الذى لعبه فى إنهاء تجربة المذهب الإسماعيلى بمصر، وإسقاط الدولة الفاطمية. الأمر الملفت فى القصة التى حكاها ابن الأثير حول مقتل «الماركيز» يرتبط بالعشرة آلاف دينار التى قبضها الشيخ «سنان» مقابل إرسال فرق اغتيالاته لتصفيته، ويبدو المال حاضراً بصورة كبيرة فى قصص الاغتيالات التى قام بها الحشاشون فى الشام تحت قيادة الشيخ «سنان».
وإذا كان المال فى قصة «الماركيز» قد دفعه صلاح الدين إلى «سنان»، فقد حكى ابن الأثير مواقف أخرى قبض فيها الحشاشون ثمن عمليات استهدفوا من ورائها اغتيال «صلاح الدين» نفسه، وقد تعددت محاولاتهم فى هذا السياق، وكان من أهمها محاولة قتله أثناء حصاره لمدينة حلب. يقول «ابن الأثير»: «لما ملك صلاح الدين حماة سار إلى حلب فحصرها، فقاتله أهلها، وركب الملك الصالح، وهو صبى عمره اثنتا عشر سنة، وجمع أهل حلب وقال لهم: قد عرفتم إحسان أبى إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم، وأنا يتيمكم، وقال من هذا كثير وبكى فأبكى الناس، فبذلوا له الأموال والأنفس، واتفقوا على القتال دونه، والمنع عن بلده، وجدوا فى القتال، وفيهم شجاعة، وقد ألفوا الحرب واعتادوها، حيث كان الفرنج بالقرب منهم، فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل حوشن، فلا يقدر على القرب من البلد، وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية، وبذل له أموالاً كثيرة ليقتلوا صلاح الدين، فأرسلوا جماعة منهم إلى عسكره، فلما وصلوا رآهم أمير اسمه خمارتكين، صاحب قلعة أبى قبيس، فعرفهم لأنه جارهم فى البلاد، وكثير الاجتماع بهم والقتال لهم، فلما رآهم قال لهم: ما الذى أقدمكم وفى أى شىء جئتم؟ فجرحوه جراحات مثخنة، وحمل أحدهم على صلاح الدين ليقتله، فقتل دونه، وقاتل الباقون من الإسماعيلية، فقتلوا جماعة ثم قُتلوا».
وأغلب الحكايات التى رواها «ابن الأثير» عن عمليات الاغتيال التى قام بها الحشاشون تجد المال حاضراً فيها بقوة، ويمثل الدافع الأول للقيام بالعملية، ويبدو أن الكثير من المؤرخين كان لديهم قناعة، أو أرادوا أن يرسخوا قناعة لدى قرائهم بأن الحشاشين لم يكونوا مدفوعين فيما قاموا به من عمليات اغتيال بمبدأ، قدر ما كانوا مدفوعين بالرغبة فى الحصول على المال، ويمكن أن يفهم هذا الأمر فى سياق الهوى المذهبى، ورغبة مؤرخى أهل السنة فى بناء صورة سلبية للحشاشين كجماعة تسعى وراء المال والسلب والنهب وليس المبدأ. ومسألة حصول المسئول عن إرسال فرق اغتيال على مال مقابل تنفيذ عملياته، أمر يتناقض ولا شك مع الإيمان بالمبادئ، ويُظهر الجماعة وكأنها مجموعة من المرتزقة، التى تتخذ من القتل والاغتيال وسيلة للتكسب والتربح، لكن ذلك لا يمنع أن الحصول على المال من جانب هذه الفرق قد يكون مبرره تمويل العمليات نفسها، وقد رأيت أن بعض العمليات استغرق تنفيذها عدة أشهر حتى تستطيع فرقة الاغتيالات النجاح فى تحقيق هدفها، كما حدث فى واقعة اغتيال «الماركيز»، أضف إلى ذلك أن ثمة عمليات اغتيال حاولها أو قام بها الحشاشون ولم يظهر فيها المال، بما فى ذلك محاولات اغتيال توجهت إلى الناصر صلاح الدين من جديد، فى المجمل العام نستطيع القول إن الحدود الفاصلة بين «الارتزاق» بالقتل، والقتل من أجل المبدأ، تكاد تذوب إلى حد كبير عندما ننظر إلى عمليات الاغتيال السياسى التى تقوم بها جماعات السيف، فكلاهما عامل يدفع فى اتجاه تنفيذ العمليات، وما أكثر ما يحاول جامعو الأموال فى الحياة التدثر بغطاء أخلاقى، يساعدهم على غسل أوحال تحصيل المال من القتل فى نهر الأخلاق!

عناقيد الغضب .. ( 23 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

( صلاح الدين ) يحرق بيوت وأولاد ( الشيعة السودان )
على يد صلاح الدين الأيوبى تم إعلان شهادة وفاة الدولة الفاطمية، لم يكن «صلاح الدين» بالطبع هو السبب الوحيد لسقوط هذه الدولة، إذ كانت توشك على السقوط بفعل عوامل مختلفة قبل وصول «الناصر»، لكنه لعب دوراً مباشراً مهماً فى تصفية المذهب الإسماعيلى فى مصر، واتخذ عدداً من القرارات والإجراءات التى أدت إلى محو المذهب والمعبرين عنه والمؤمنين به من الواقع المصرى، واعتمد فى ذلك على نائبه «قراقوش» وكان خصياً أبيض -كما يقول ابن الأثير- حل محل مؤتمن الخليفة العاضد، وكان «إسماعيلياً» من السودان (أى السود)، وقد حاول الانقلاب على صلاح الدين بالاستعانة بالفرنج، لكن الأخير تمكن من رقبته وقتله. يحكى ابن الأثير أنه لما قُتل مؤتمن الخلافة: «غضب السودان الذين بمصر لمقتله حميه، ولأنه كان يتعصب لهم، فحشدوا وأجمعوا، فزادت عدتهم على خمسين ألفاً، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية، فاجتمع العسكر أيضاً وقاتلوهم بين القصرين، وكثر القتل فى الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين، فركبهم السيف، وأخذت عليهم أفواه السكك، فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فأجيبوا إلى ذلك، فأخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم وزير الدولة توارن شاه أخو صلاح الدين الأكبر فى طائفة من العسكر، فأبادهم بالسيف، ولم يبق منهم إلا القليل الشريد».
المواجهة التى وقعت بين صلاح الدين والشيعة «السودان» تمنحنا مؤشراً على أن القضاء على الإسماعيليين فى مصر لم يكن بالأمر السهل ولا اليسير، وأن القول بأن قرار صلاح الدين بقطع الخطبة للخليفة الفاطمى وعقدها للخليفة العباسى مر على مصر بسلام ولم ينتطح فيه عنزان تعوزه الدقة، وليس أدل على ذلك من تلك الواقعة الكبرى التى تقاتل فيها خمسون ألفاً من السودان الإسماعيلية مع جنود صلاح الدين، وانتهت بأن أحرق عليهم السلطان ديارهم بما فيها من مال وولد! وسلط عليهم نائبه «قراقوش» يعمل فيهم يد التعذيب والمطاردة، وكما هى عادتهم تعامل المصريون مع تسلط «قراقوش» بسلاح السخرية، فألفوا حوله العديد من الحكايات المضحكة التى تهزأ به، وتربط تسلطه بفرط غبائه وتغفيله، وهى الحكايات التى يجمعها كتاب: «الفاشوش فى أحكام وحكايات قراقوش» الذى ألفه «الأسعد بن مماتى»، ولعلك تعلم تلك المقولة التى تتردد على ألسنة الكثيرين عند الضجر من تسلط أو قهر أحد لهم، وتأخذ شكل السؤال: «حكم قراقوش يعنى؟»، وهو ما يمنحنا مؤشراً عن الدور الذى لعبه نائب السلطان صلاح الدين فى مطاردة وملاحقة المصريين ممن ظلوا على ولائهم للمذهب الإسماعيلى، وما زالت الذاكرة الجمعية تستدعيه حتى الآن فى المواقف المماثلة.
ولا خلاف على أن الدور الذى لعبه صلاح الدين فى مطاردة الإسماعيلية بمصر كان له صدى شديد السلبية لدى الحشاشين المؤمنين بمذهب «الإسماعيلية النزارية»، خصوصاً فى الشام، وهم فى كل الأحوال لم يغفروا له أنه لعب الدور المباشر فى إسقاط الخلافة الفاطمية فى مصر، لكن يبقى أن علاقة الحشاشين فى الشام تحت قيادة الشيخ «راشد الدين بن سنان» بصلاح الدين لم تكن تسير على وتيرة واحدة، بل كانت تتأرجح ما بين الصعود والهبوط، والصداقة والعداء، تبعاً للمصالح، فشأن القيادات التى تتمتع بالذكاء السياسى فى كل زمان ومكان، كان كل من «صلاح الدين» والشيخ «سنان» لا يجيدان سوى الحديث بلغة المصالح، فكانا يتقاربان حين تتفق المصالح، ويتنافران ويتعاديان حين تتفرق بهما سبلها، فأحياناً ما كان يتعاون الطرفان على عدو مشترك، حين يكون لهما مصلحة واحدة فى ذلك، وفى مواقف عديدة لجأ صلاح الدين إلى الحشاشين لتنفيذ بعض العمليات التى يعجز عنها جنوده، وكان «الحشاشون» لا يبطئون عنه، خصوصاً فى المواقف التى يتوحد فيها الطرفان أمام عدو مشترك، من النماذج على ذلك الموقف الذى يحكيه «ابن الأثير» حول مقتل عدد من القادة الصليبيين خلال الحرب التى استعرت بينهم وبين المسلمين، يقول ابن الأثير: «فى هذه السنة، فى ثالث عشر ربيع الآخر، قتل المركيس -يقصد الماركيز كونراد- الفرنجى، لعنه الله، صاحب صور، وهو أكبر شياطين الفرنج، وكان سبب قتله أن صلاح الدين راسل مقدم الإسماعيلية، وهو سنان، وبذل له أن يرسل من يقتل ملك إنجلترا (يقصد ريتشارد قلب الأسد)، وإن قتل المركيس فله عشرة آلاف دينار، فلم يمكنهم قتل ملك إنجلترا، ولم يره سنان مصلحة لهم، لئلا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنج ويتفرغ لهم، وشرِه فى أخذ المال، فعدل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلين فى زى الرهبان، واتصلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحب الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهر يظهران العبادة، فأنس بهما المركيس، ووثق بهما، فلما اطمأن لهما عمل الأسقف بصور دعوة للمركيس، فحضرها، وأكل طعامه، وشرب مدامه، وخرج من عنده، فوثب عليه الباطنيان المذكوران، فجرحاه جراحاً وثيقة، وهرب أحدهما، ودخل كنيسة يختفى فيها، فاتفق أن المركيس حمل إليها ليشد جراحه، فوثب عليه ذلك الباطنى فقتله، وقتل الباطنيان بعده».

عناقيد الغضب .. ( 22 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

المال والإقطاعيات .. مقابل الولاء لصلاح الدين
يقول محمد كامل حسين -فى كتابه طائفة الإسماعيلية- عن الشيخ «راشد الدين سنان»: «عرفه أهل الشام بلقب شيخ الجبل، إمعاناً فى احترامه ورهبة منه فى الوقت نفسه، هو أبوالحسن سنان بن سليمان بن محمد، ولد فى قرية صغيرة من قرى البصرة، ويقال إن سكان هذه القرية كانوا على مذهب النصيرية الذين يؤلهون علياً بن أبى طالب، ولكن أسرة سنان لم تكن على هذه العقيدة، بل كانت على مذهب الشيعة الاثنى عشرية، ولما شب تحول إلى مذهب الإسماعيلية على يد داعى دعاة العراق، الذى لمس فيه مخائل النجابة والذكاء، فحبب إليه الرحيل إلى آلموت ليتلقى هناك علوم الدعوة الإسماعيلية، وكان صاحب آلموت إذ ذاك هو محمد بن كيابزرك أميد الذى أحسن استقبال سنان وجعله مع ولديه فى طلب العلم، بل اتخذه ربيباً له بعد ذلك بقليل، فتوطدت صلة سنان بولى العهد الحسن بن محمد، فلما تولى «الحسن» أمور الطائفة بآلموت أمر سناناً بالرحيل إلى الشام، ليشرف بنفسه على شئون الطائفة. وصل سنان إلى الشام وتحصن بقلعة «الكهف»، ومكث يدرس بها بعض الوقت، ثم تحرك منها إلى قلعة «مصياف» واتخذها مركزاً له».
تمكن الشيخ «سنان» من إنفاذ أول خطوة تعلمها فى قلعة آلموت لبناء دولته فى الشام، من خلال السيطرة على قلعة «مصياف»، ليتخذ منها مركزاً لمواجهة أعدائه، وكانت الشام فى ذلك الوقت تعج بالكثير من الأحداث، من أبرزها موجات الحروب الصليبية التى كانت تتدافع على المنطقة، ورفع لواء التصدى لها السلطان «نور الدين محمود زنكى»، ولم يكن «الحشاشين» بعيدين عن تفكير «نور الدين»، إذ قرر تجريد حملة عسكرية إليهم يقودها بنفسه، لكن المنية وافته، قبل أن يتم ما عزم عليه، وقد حذا حذوه من بعده نائبه على مصر «صلاح الدين الأيوبى» فبدأ يرسل رسائل التهديد والوعيد إلى الشيخ «سنان»، ورد الأخير عليه ردوداً تعكس مدى استهانته به، وهوانه عليه، وجرد «صلاح الدين» جيشاً كبيراً لمحاربة الإسماعيلية ومحاصرة قلعة «مصياف»، لكنه عاد دون أن يفتحها، بعد أن طلب منه أحد أبناء عمومته ترك الإسماعيليين والتفرغ لمواجهة الصليبيين.
والعلاقة بين صلاح الدين الأيوبى والإسماعيليين قديمة تعود إلى الفترة التى جاء فيها إلى مصر بعد أن أرسل الخليفة الفاطمى «العاضد» إلى «نور الدين محمود» يستنجد به من هجمات الفرنجة على مصر، فأرسل إليه «أسد الدين شيركوه» مع ابن أخيه «صلاح الدين الأيوبى» للتصدى لهذه الهجمات، وبعد وفاة «شيركوه» دان أمر مصر لصلاح الدين. يقول ابن الأثير: «استمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته وأهله، فأرسلهم إليه، وشرّع عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته، وكلهم فعل ذلك، وأُخذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حباً وطاعة». فى هذا التوقيت أرسل «نور الدين محمود» إلى صلاح الدين أمراً بقطع الخطبة للخليفة العاضد، وكان الأخير يخشى ثورة المصريين عليه إذا فعل ذلك. يقول «ابن الأثير»: «وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين بن أيوب لما ثبت قدمه بمصر وزال المخالفون له، وضعف أمر الخليفة العاضد بها، وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش، وهو خصى، كان من أعيان الأمراء الأسدية، كلهم يرجعون إليه، فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكى يأمره بقطع الخطبة العاضدية، وإقامة الخطبة المستضيئية، فامتنع صلاح الدين، واعتذر بالخوف من أهل الديار المصرية عليه لميلهم إلى العلويين، وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة لهم، ويريد بقاءهم خوفاً من نور الدين، فإنه كان يخافه أن يدخل الديار المصرية ويأخذها منه، فكان يريد أن يكون العاضد معه، حتى إذا قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه، فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره، وألح عليه بقطع خطبته، وألزمه إلزاماً لا فسحة له فى مخالفته، واتفق أن العاضد مرض هذا الوقت مرضاً شديداً، فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه، فمنهم من أشار به ولم يفكر بالمصريين، ومنهم من خافهم، إلا أنه لا يملك إلا الامتثال لأمر نور الدين».
الواضح أن صلاح الدين كان يدير الأمور بشكل يعكس مدى حرصه على السلطة، فلم يكن أمر المذاهب يشغله، سواء المذهب الشيعى أو السنى، وتردده فى طمس الهوية الشيعية لمصر حينذاك، لم يكن له من سبب سوى الخوف من الأهالى، ومن ثورتهم عليه. وتشير بعض كتب التاريخ إلى أنه لما أقيمت الخطبة للخليفة العباسى «لم ينتطح عنزان» فى هذا الأمر، رغم وقوع أحداث تدلل على عكس ذلك فيما بعد، الشاهد فى الأمر أن صلاح الدين انقلب على العاضد، إرضاء لنور الدين محمود، وقرر محو المذهب الشيعى تماماً من مصر، وإعادتها إلى حظيرة أهل السنة والجماعة، حين فطن إلى أن هذا التحول يخدم هدفه فى البقاء على كرسى السلطة. ويبدو أن مسألة «السلطنة» كانت تشغل صلاح الدين أكثر من غيرها.

عناقيد الغضب .. ( 21 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

اللعب بالرؤوس فى طرقات حلب
الحلم بالتمدد إلى أراض جديدة سمة مميزة لكافة جماعات السيف، فهى تبادر، بعد أن ترسخ أقدامها فى مكان معين، إلى تمديد دعوتها إلى مواقع أخرى لخلق أطراف جديدة للجماعة، ترتبط بالمركز، تلك واحدة من القواعد الأساسية التى استند إليها الحسن الصباح، بعد أن استقر به الحال داخل قلعة «آلموت»، كان من الطبيعى فى هذا السياق أن يضع «الصباح» عينيه على الشام، خصوصاً أن له سابقة دعوة فيها، حين مر عليها خلال رحلة هروبه من القاهرة المعزية، قصبة الديار المصرية، واجتهد فى دعوة الشوام إلى تأييد «الإسماعيلية النزارية»، وكان الكثير من أهلها مهيئين لاستقبال هذه الدعوة، أخذ «الصباح» يرسل دعاته إلى سوريا من أجل تنظيم وقيادة «النزاريين» هناك، وساهم تقاطر الموجات الصليبية على بيت المقدس، وتفكك الدولة الفاطمية فى مصر، فى منح «النزاريين» الشوام مساحة أكبر للتحرك والعمل، فبدأوا يخططون للعمل بذات المنهجية ونفس الطريقة التى استند إليها «الصباح» فى تأسيس دويلة «آلموت»، وذلك من خلال البحث عن القلاع الحصينة وتوظيفها كنقاط انطلاق لمناوءة الخصوم، والاعتماد على فرق الاغتيالات فى تصفية الأعداء، ولم يكن تحقيق هذا الهدف من السهولة، شأن تجربة قلعة «آلموت» بجبال فارس، بل استغرق الأمر عدة عقود حتى تمكن الحشاشون من الاستيلاء على مجموعة من القلاع، كان من أهمها قلعة «مصياف».
كان المشهد فى الشام -وقت ظهور الحشاشين- يتسم بقدر كبير من التنافر الذى يسمح لأى جماعة تجيد اللعب على المتناقضات بالنجاح فى تحقيق أهدافها، وارتبط جوهر التنافر بوجود ثلاث ممالك بالشام، على رأس كل منها أمير يحلم بالزحف إلى المملكتين الأخريين والسيطرة عليهما، كان الأمير «رضوان» أميراً على حلب، وأخوه «دقماق» أميراً على دمشق، وزوج أمه «جناح الدولة» أميراً على حمص، تمكن الحشاشون من التسلل إلى أكثر الأمراء الثلاثة طمعاً فى السيطرة والاستحواذ، وهو الأمير «رضوان» صاحب حلب، وأقنعوه ببناء مركز للإسماعيلية، وكان لهم ما أرادوا، فبدأوا فى التحرك دون قيود داخل الشام، بعد أن كانوا يعيشون فى خوف من بطش السلاجقة، ساند «رضوان» الحشاشين طمعاً فى أن يساعدوه فى السيطرة على مجمل الشام، فاستغلوا ذلك، وجعلوا من «حلب» مركزاً لدعوتهم فى هذه المنطقة. يقول «ابن الأثير»: «وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد، وكان يميل إليه، فحسن له مذاهب العلويين المصريين، وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم، ويبذلون له المال، وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق، فخطب لهم بشيزر، وجميع الأعمال سوى أنطاكية، وحلب، والمعرة، أربع جمع، ثم حضر عنده سقمان بن أرتق، وباغى سيان، صاحب أنطاكية، فأنكرا ذلك واستعظماه، فأعاد الخطبة العباسية فى هذه السنة، وأرسل إلى بغداد يعتذر مما كان منه».
من الواضح طبقاً للرواية السابقة أن «رضوان» -شأنه شأن الحكام الطموحين فى كل زمان ومكان- كان شخصاً حالماً، يميل إلى تقريب كل من يزين له حلمه، ويقنعه بقدرته على الوصول إليه، حتى ولو كان منجماً، كما امتاز بالقدرة على التلاعب بالعناصر المحيطة به، فى سبيل تحقيق طموحاته، فتراوحت علاقته بكل الأطراف ما بين الصعود والهبوط تبعاً لمصالحه، سواء كانوا أمراء يحكمون إمارات مجاورة له، أو سلطة الخلافة فى بغداد، أو جماعة الحشاشين، كان «رضوان» حريصاً على استخدام الجميع من أجل تحقيق أهدافه، وقد وظف الحشاشين بشكل أساسى فى تصفية خصومه السياسيين، وكان أهم خصم استطاع التخلص منه فى هذا السياق على يد هذه الجماعة هو زوج أمه «جناح الدولة» أمير «حمص»، الذى رفض انغماسه مع «الإسماعيليين»، وترك الفرصة لهم لبث دعوتهم داخل الشام. يقول «ابن الأثير» حول اغتيال «جناح الدولة»: «قتله باطنى بالمسجد الجامع، فقيل: إن الملك رضوان ربيبه وضع عليه من قتله»، ورغم الإنجازات التى حققها الإسماعيليون فى الشام، فإنهم لم يتمكنوا من إخضاع أهلها، وتعرضوا للعديد من المذابح، سواء على يد أمراء المدن الشامية المختلفة، أو على يد الأهالى.
وفى مواجهة تعثر الدعوة «الحشيشية» بالشام تم اتخاذ قرار فى قلعة آلموت بإرسال أبوطاهر الفارسى، ليساعد الحشاشين على السيطرة على إحدى القلاع الجبلية لجعلها نقطة انطلاق لدولتهم فى الشام، لكن رحلته لم تكن ناجحة، وانتهز «رضوان» فرصة فشله لينقلب على الحشاشين ويعمل فيهم آلة القتل، وبعد موت «رضوان» حدثت مذابح عظيمة ضد الجماعة، كان من بين ضحاياها أبوالفتح بن أبى طاهر الفارسى، إذ تم قتله على يد الجماهير، ومثلوا بجثته، وطافوا برأسه فى طرقات حلب، ظل الحشاشون بعد ذلك فى حالة صعود وهبوط حتى ظهر الداعية الداهية «راشد الدين سنان»، وكان دوره فى بناء دولة للحشاشين فى الشام مشابهاً إلى حد كبير لدور الحسن الصباح فى بلاد فارس، إذ استطاع أن يجمع الإسماعيليين من حوله، ولقب أيضاً بـ«شيخ الجبل»، ومكث حيناً فى قلعة «الكهف»، ثم انتقل منها بعد حين إلى قلعة «مصياف»، وسلحها وضاعف من تحصيناتها، لتصبح معادلاً موضوعياً لقلعة «آلموت».

عناقيد الغضب .. ( 20 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

من يحتكر السلطة .. يملك اللعب فى عقل الجماهير
المتأمل لتلك الرواية التى لخص فيها «ابن كثير» -فى كتابه «البداية والنهاية»- قصة نشأة الحشاشين، وطبيعة عقيدتهم، وعلاقتهم بالسلطة، وبالأفراد العاديين من أبناء الشعوب، والطريقة والأسلوب الذى كان يدير به «الحسن الصباح» أتباعه، يستطيع أن يستخلص العديد من السمات وأبعاد الصورة الذهنية التى حاولت السلطة السلجوقية، ودولة الخلافة العباسية، وفقهاء ومؤرخو أهل السنة والجماعة، رسمها لهذا «التنظيم» وشيخه «الحسن الصباح». وتتحدد أبرز هذه السمات فى: الزندقة (أى الإلحاد بالمصطلح المعاصر)، واعتزال الناس، وسيطرة الجهل على الأتباع، وخضوعهم لعمليات تخدير ممنهج ومنظم، والسمع والطاعة الذى يبديه الأتباع للقائد.
تهمة الزندقة كانت من التهم المريحة الجاهزة فى ذلك العصر، التى تسهل على السلطة أو الجهة أو الشخص، اغتيال خصومه السياسيين معنوياً، وهى تهمة لا يخلو منها أيضاً الواقع المعاصر للخصومات السياسية داخل ديار المسلمين. فالزندقة تعنى فى الوجدان المسلم «إنكار الدين»، وهى من أقبح الصفات التى توجب ازدراء المجموع المسلم للشخص، حال اتهامه بها. يشير «ابن كثير» إلى أن الحسن الصباح «كان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها»، وهو يقصد بالزنادقة فى هذا المقام: الشيعة الفاطميين من المؤمنين بالمذهب الشيعى «الإسماعيلى»، وكانوا يسيطرون حينذاك على مصر، ولا خلاف على أن من تعلم الزندقة -على حد وصف «ابن كثير»- وتكاثر الأتباع من حوله، لا بد أن يتحول إلى معلم للزندقة، بما تعنيه من معانى إنكار الدين والخبث والضلال والشرود عن الفهم الشائع للإسلام. وهى معانٍ كفيلة بإثارة العامة على أى شخص أو جماعة بمجرد إلصاقها بها، خصوصاً إذا تردد الاتهام على لسان كبار الفقهاء والشيوخ وعلى ألسنة أصحاب السلطة والسلطان. وقد كان السلاطين حريصين أشد الحرص على حشد العوام فى الحرب على «الحشاشين»، بل وإشراكهم فى غنائم الهجوم عليهم. وقد أشار «ابن كثير» إلى أن السلطان كان يحرّض العوام على قتل الحشاشين: «ونودى فيهم إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله»، إنه تحريض رسمى على القتل، ليس بهدف إشعال حرب أهلية، بل للاستقواء بالأهالى فى الحرب على أتباع هذا «التنظيم»، بالإضافة إلى خلق نوع من أنواع العداء الشعبى تجاه الحشاشين، يحول دون انضمام المزيد من الكوادر إليهم، خصوصاً أن طريقتهم فى العمل كانت مثار إعجاب بعض الأفراد العاديين من أبناء الشعوب.
ويعد «اعتزال» الناس سمة أخرى من سمات الصورة السلبية التى حاول أهل هذا العصر رسمها للحشاشين. فهم يلجأون إلى القلاع وشعاب الجبال فيما يشبه الهجرة، كمظهر من مظاهر رفضهم المجتمع، وكفرهم السياسى أو العقائدى بما يدين به أهله. والتكفير -أياً كان نوعه- لا بد أن تعقبه «عزلة» أو هجرة، وذلك ما قرره «الحسن الصباح» -كما يشير «ابن كثير»- حين تمدد من قلعة «آلموت» إلى الاستيلاء على مجموعة أخرى من القلاع المحيطة بها، وتحصّن بها، وبدأ يعزل فيها أتباعه عن العالم ويدرّبهم ويعدهم للانقضاض على المجتمع الذى هاجروا منه وناصبوه العداء. وكان «تجهيل الأتباع» من السمات الأساسية للصورة السلبية للحشاشين، فأتباعهم يوصفون بالجهل والفراغ المعرفى الذى يجعلهم مرتعاً خصباً للأفكار التى يبثها فيهم «التنظيم». يقول «ابن كثير» إن «الصباح»: «كان لا يدعو إليه من الناس إلا غبياً جاهلاً لا يعرف يمينه من شماله». ولا خلاف على أن تشويه التابع بهذه الصورة، ووصفه بأنه لا يعرف يمينه من شماله، يستهدف التقليل من قدرات القائد الذى يسيطر عليه ويوجهه، وأن خضوع التابع مرده الجهل والتغفيل، وليس عبقرية من يقوده. ومن اللافت فى سمات الصورة التى رسمها «ابن كثير» لـ«الحشاشين»، تلك الإشارة إلى الأدوات التى كان يستخدمها «الصباح» فى السيطرة على أتباعه من خلال إطعامهم العسل بالجوز والشونيز (الحبة السوداء) حتى يحرّف مزاجه، وهى أدوات فى المجمل لا تؤدى إلى التخدير، لكن قد يكون لها تأثير إيجابى على استرخاء الأعصاب، وربما دعم ذلك أن «الصباح» كان يشفعها بالرقية، وبعض أعمال السحر، كما ينص «ابن كثير»، وهو يسقى المريد ويطعمه، حتى يتهيأ لقبول الخطاب «الحشيشى» الشيعى المنتصر لأهل البيت والإمام على بن أبى طالب. وتكون النتيجة المترتبة على ذلك هى الخضوع التام، والطاعة الكاملة من جانب المريد لشيخه وقائده، بحيث يمتثل إلى كل أوامره أياً كانت، حتى لو طلب منه أن ينحر نفسه بخنجر، أو أن يلقى بنفسه من أعلى جبل ليتردى منه، كما روى «ابن كثير»، وهى رواية لا تخلو من شطط، لكنها فى المجمل العام تؤشر إلى أن أتباع «الصباح» كانوا يطيعونه طاعة عمياء، حتى لو كان فى هذه الطاعة هلاكهم.
من الوارد بالطبع أن يصل أعضاء «فرق الموت» إلى هذا المستوى من الطاعة والتضحية فى سبيل قيادتهم، ولو أننا راجعنا العديد من الوقائع والعمليات الانتحارية التى يقوم بها أعضاء التنظيمات العنقودية وجماعات الغضب -فى الماضى والحاضر- فسوف نستوعب احتمالية أن يصل أتباع «الحسن الصباح» إلى مستوى من الطاعة العميقة، يبرر إقدامهم على عمليات الاغتيال التى قاموا بها، وهم فى حالة غيبوبة عقلية صُنعت على عين «الصباح»!.

الأربعاء، 8 يوليو 2015

إلـيـهـا ...

عندما غابت كتب يقول :
هـذا الإعـجـاب الـذى يُـحـسـه والإنـبـهـار الـذى يـتـعـذب بـه 
أمـام صـنـاعـة الـبـديـع الـمُـبـدع 
هـذا الأنــف الـذى يـحـسـد الـهـواء الـذى يـدخـلـه 
والـفـم الـذى يـعـجـب للكـلـمـة تـخـرج مـنـه ..
لـو كـان كـلـمـة لـتـعـلـق بـشـفـتـيـهـا يـرفــض الـخـروج ..
وهـذا الـشـعـر الـذهـبـى الـمُـهـذب الـذى يـنـسـدل فـى أدب حـول الـوجـه الـمـسـتـديـر ..
الــطـاغـى فـــى جـــمـالــه ..
الـديـكـتـاتــور فــى نــظــراتــــه ..
الـبـاطـــش فــى لـفـتـاتــه 

الاثنين، 6 يوليو 2015

عناقيد الغضب .. ( 19 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

اقـتـلوا كـل مـن قـدرتـم عليه .. وخـذوا مـالـه
رغم انحياز قطاع شعبى كبير للخطاب الرافض لـ«الحشاشين» وفكرهم، كانت عمليات الاغتيال الدقيقة والحاذقة التى قام بها أتباع الحسن الصباح مصدر إبهار لقطاع لا بأس به من البسطاء من أبناء الشعوب، وتحفيزهم على الانضمام إلى فرق الاغتيالات التى مثّلت فى نظر البعض إحدى صور البطولة، خصوصاً عندما كانت عمليات الاغتيال تتوجه إلى وزراء ورجال دولة يُسرفون فى ظلم الأهالى. فالشعوب بطبيعتها تنبهر بالأعمال الكبرى التى تعجز بشكل ذاتى عن الإتيان بها، حتى ولو تمثلت هذه الأعمال فى قتل الآخرين، أو الإجادة فى الاحتيال عليهم لإيقاعهم فى فخ الموت، أو القدرة على الهروب والتفلُّت من العقاب. فالشعوب بطبيعتها تميل إلى تمجيد البطولة بغضّ النظر عن مضمونها، وهو ما استفاد منه «الحشاشون» فى جذب كوادر جديدة للانضمام إليهم.
خاض السلطان السلجوقى «سنجر بن ملكشاه» المعركة تلو الأخرى ضد «الحشاشين» أتباع الحسن الصباح، بعد أن كثرت وتوالت ضربات الفدائيين للأمراء السلاجقة ورجال دولتهم، لكن الضربات المتتالية من جانب السلاجقة لم تفلح فى القضاء على الفدائيين وفرق الموت والاغتيالات، الأمر الذى اضطر السلطان السلجوقى «سنجر» إلى مهادنة الإسماعيليين وعقد صلح معهم، بعد أن استيقظ من نومه ذات يوم فوجد خنجراً إلى جوار فراشه، وبغضّ النظر عن دقة هذه الرواية، فإن الملك بدأ يصاب بقدر كبير من الفزع، ويشعر بأن الخطر آخذ فى الاقتراب منه بشكل شخصى، ولم يجد مناصاً من التفاوض مع الحسن الصباح والتصالح معه اتقاء لشره، خصوصاً أنه لعب بكل ما يملك من أدوات مع «شيخ الجبل» دون جدوى، وكان آخرها الرسالة التى بعث بها إليه.
وكان «ملكشاه» قد أرسل رسالة إلى الحسن الصباح يهدده ويتوعده فيها قائلاً: «أنت حسن صباح قد أظهرت ديناً وملةّ جديدة، فأغريت الناس وخرجت على ولىّ عصرك، فجمعت حولك بعض سكان الجبال، ثم أغويتهم بكلامك حتى حملتهم على قتل الناس، وطعنت فى الخلفاء العباسيين الذين هم خلفاء الإسلام، وبهم استحكم قوام الملك والملّة، ونظام الدين والدولة، فعليك أن ترجع عن هذه الضلالة وتكون مسلماً، وإلا فقد عينت لك جيوشاً وأرجأت توجهها، حتى تجىء إلينا أنت وجوابك. وحذار حذار على نفسك ونفوس تابعيك، فارحمها ولا تلقها فى ورطة الهلاك، ولا تغتر باستحكام قلاعك، ولتعتقد حقيقة أن قلعة (الموت) المستحكمة لو كانت برجاً من بروج السماء لجعلتها أرضاً يباباً، ولساويتها مع التراب بعناية الله تعالى». سطور هذه الرسالة تكشف حالة الضعف والاهتزاز التى اتسم بها خطاب «سنجر» فى مواجهة «الصباح»، فرغم ما فيها من عبارات تهديد ووعيد، فإنها كانت تحتشد بمعانى الخوف الكامن من الجبل، وقلعة الجبل، وشيخ الجبل، ولو كان «سنجر» يمتلك بالفعل القدرة على القضاء عسكرياً على «الصباح»، لفعلها، ولما كان بحاجة إلى التهديد بذلك فى رسالة، ولما كان سلاحه الأبرز فى المواجهة هو الدعاية السلبية وصياغة الأساطير حول خصومه من الحشاشين، لحشد العوام فى الحرب ضدهم.
ويحكى «ابن كثير» حكاية عجيبة فى هذا المقام، تبين لك الصورة التى كانت السلطة تحاول رسمها للحشاشين من أتباع الحسن الصباح، يقول فيها: «لما دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنية، فقتل السلطان منهم خلقاً كثيراً، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة، ونودى فيهم إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله، وكانوا قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأول قلعة ملكوها فى سنة ثلاث وثمانين، وكان الذى ملكها الحسن بن صباح، وكان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها، ثم صار إلى تلك النواحى ببلاد أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبياً جاهلاً لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز (الحبة السوداء) حتى يحرف مزاجه، ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة الضلال أنهم ظُلموا وُمنعوا حقهم الذى أوجبه الله لهم ورسوله، ثم يقول له فإذا كانت الخوارج تقاتل بنى أمية لعلى، فأنت أحق أن تقاتل فى نصرة إمامك على بن أبى طالب، ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه، حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات (السحر) والحيل التى لا تروج إلا على الجهال، حتى التفّ عليه بشر كثير وجمع غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده وينهاه عن ذلك، وبعث إليه بفتاوى العلماء، فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حوله من الشباب: إنى أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولاه فاشرأبت وجوه الحاضرين ثم قال لشاب منهم اقتل نفسك، فأخرج سكيناً فضرب بها غلصمته (حلقومه)، فسقط ميتاً، وقال لآخر منهم: ألق نفسك من هذا الموضع فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطع، ثم قال لرسول السلطان: هذا الجواب! فمنها امتنع السلطان من مراسلته». يلخص «ابن كثير» فى هذه الرواية رؤية عصره والسلطة السائدة فى ذلك العصر لتنظيم الحشاشين والأبعاد الفكرية والموضوعية التى حكمت مسألة بناء الصورة السلبية لهذا التنظيم لدى الشعوب القائمة حينذاك.

عناقيد الغضب .. ( 18 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

ذهـب المسلمون .. فلم يبق من يأخذ بيد ملهوف
شرع «الحسن الصباح» فى التمدد إلى قلاع ومواقع جديدة، بعد استيلائه على قلعة «آلموت» فيما يشبه «الانقلاب الأبيض» عام 1090. ساعده على ذلك حالة التراجع والاهتزاز التى أصابت الدولة السلجوقية، بعد وفاة السلطان «ملكشاه»، وتولى ولده «سنجر» الحكم. وكانت عدته فى ذلك الصبية من أبناء المؤمنين بمذهبه، إذ جمع هؤلاء وأحسن تدريبهم على استخدام جميع الأسلحة التى كانت شائعة فى ذلك العصر، وعلمهم كيف يستترون من الناس، وكيف يحتفظون بأسرارهم وأسرار من معهم، ولا يبيحون بها فى حالة القبض عليهم، وإذا استيأس «الفدائى» من قدرته على المقاومة حال القبض عليه، فعليه أن يقتل نفسه بيده. لقد استند التدريب داخل قلعة آلموت إلى مجموعة من القيم الأساسية، من أبرزها: الكفاءة القتالية، والحيلة فى التنكر، والسرية فى التحرك، والغيلة فى الأداء. ولو أنك تأملت وحللت عدداً من وقائع الاغتيال التى تمت على يد «فرق الموت»، فسوف تدرك مستوى الاحترافية الذى كان يؤدى به أعضاؤها فى تنفيذ أهدافهم، قياساً إلى مستوى الأداء القتالى الذى ساد ذلك العصر. كان أداء فرق الاغتيالات مختلفاً أشد الاختلاف، فى نوع السلاح، حيث مالوا إلى استخدام الخناجر والسكاكين، الأنسب للاغتيال، وفى القدرات التمثيلية والتنكرية العالية التى امتازوا بها، بالإضافة إلى عدم الاكتراث بنتائج العمليات التى كانوا يقومون بها، فكانوا أقرب إلى «الانتحاريين» بالمصطلح الحديث، منهم إلى المقاتلين النظاميين.
كان من بين من قامت فرق الاغتيالات التابعة للحسن الصباح باغتيالهم الوزير فخر الملك بن نظام الملك، وتمنحك مراجعة واقعة اغتياله العديد من المؤشرات حول طريقة وأسلوب عمل هذه الفرق. يحكى ابن الأثير -فى كتابه الكامل- قصة مقتل فخر الملك، وزير السلطان السلجوقى سنجر بن ملكشاه، قائلاً: «أقام فخر الملك أبوالمظفر على بن نظام الملك عند الملك سنجر بن ملكشاه، ووُزّر له، وأصبح يوم عاشوراء صائماً، وقال لأصحابه: رأيت الليلة فى المنام الحسين بن على، وهو يقول: عجل إلينا، وليكن إفطارك عندنا، وقد اشتغل فكرى به، ولا محيد عن قضاء الله وقدره!، وقالوا: يحميك الله، والصواب ألا تخرج اليوم والليلة من دارك، فأقام يومه يصلى، ويقرأ القرآن، وتصدق بشىء كثير. فلما كان وقت العصر خرج من الدار التى كان بها يريد دار النساء، فسمع صياح متظلم، شديد الحرقة، وهو يقول: ذهب المسلمون، فلم يبق من يكشف مظلمة، ولا يأخذ بيد ملهوف! فأحضره عنده، رحمة له، فحضر، فقال: ما حالك؟ فدفع إليه رقعة، فبينما فخر الملك يتأملها، إذ ضربه بسكين فقضى عليه، فمات، فحُمل الباطنى إلى سنجر، فقرره، فأقر على جماعة من أصحاب السلطان كذباً، وقال: إنهم وضعونى على قتله، وأراد أن يقتل بيده وسعايته، فقُتل من ذكر، وكان مكذوباً عليهم، ثم قتل الباطنى بعدهم».
جوانب عديدة من الشطط تظهر فى القصة السابقة، وكذلك التقاطع مع قصص اغتيال أخرى شبيهة اشتملت عليها كتب التاريخ الإسلامى، فالتقاطع واضح بين المنام الذى رأى فيه فخر الدين الحسين بن على يدعوه إلى التعجيل إليه والإفطار معه إذا أصبح صائماً، والمنام الذى تحكيه كتب التراث عن عثمان بن عفان، ورأى فيه ليلة مقتله أبا بكر وعمر، ودعواه إلى الإفطار معهما من الغد (يوم مقتله). أراد «ابن الأثير» أن يؤكد أن «فخر الدين» كان يشعر بدنو أجله، وأن من حوله أحسوا بذلك عندما حكى لهم منامه، فنصحوه بعدم الخروج، لكنه أبى. وجانب التمحك فى هذه القصة واضح، كما أن جانب الحيلة ظاهر أشد الظهور فى أداء الصبى الذى تولى أمر اغتيال فخر الدين عندما خرج إلى نسائه، حين صرخ مستغيثاً ومتظلماً، وقائلاً بأسلوب مؤثر: ذهب المسلمون، فلم يبق من يكشف مظلمة، ولا يأخذ بيد ملهوف!. ويُفهم من سياق القصة التى حكاها «ابن الأثير» أن جانب المروءة فى شخص الوزير فخر الدين كان واضحاً، عندما بادر إلى إغاثة الباطنى، وجانب الخسة كان ظاهراً عند القاتل، الذى بتر اليد التى امتدت إليه بالإغاثة، بل واجتهد فى المراوغة بعد قيامه بعملية الاغتيال، فاعترف زوراً على جماعة من أصحاب السلطان، وقال إنهم هم الذين حملوه على قتل الوزير، فتقرر قتلهم، وأراد أن يقتل نفسه بعد ذلك لكنه لم يفلح، فقُتل على يد سنجر، فى مشهد يوضح إلى أى حد كان الحشيشية يسعون إلى التوسع فى القتل.
حكى «ابن الأثير» فى موضع آخر قصة اغتيال «المقرب جوهر»، وهو من خدم السلطان «سنجر»، «وكان قد حكم فى دولته جميعها، ومن جملة مماليكه العباس صاحب الرى، وكان سائر عسكر السلطان سنجر يخدمونه ويقفون ببابه، وكان قتله بيد الباطنية، وقف له جماعة منهم بزى النساء واستغاثوا به، فوقف يسمع كلامهم فقتلوه، فلما قُتل جمع صاحبه عباس العساكر وقصد الباطنية، فقتل منهم وأكثر، وفعل بهم ما لم يفعله غيره، ولم يزل يغزوهم ويقتل منهم ويخرب بلادهم إلى أن مات». إن هذه الواقعة تمنحك مؤشراً جديداً عن بعض جوانب الحيلة التى كان تعتمد عليها فرق الاغتيالات الحشيشية والتى كانت تصل فى بعض الأحوال إلى التنكر فى زى النساء، والتماس كل السبل حتى يصلوا إلى أهدافهم فى القتل والاغتيال.


عناقيد الغضب .. ( 17 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

جــنـة ( آلــمــوت ) .. ونـارهـا
رسم المؤرخون صورة لقلعة «آلموت» يختلط فيها الواقع بالخيال والحقيقة بالأسطورة، ولم يلتفتوا، وهم يكتبون عنها، إلى أهواء المؤرخين ومذاهبهم التى انعكست على وصفهم لها، وتشخيص حالة من كان يتحرك على مسرحها، وما كانت تشهده من أحداث، وقد بلغ بهم الخيال مبلغه حين تحدثوا عن «الفردوس الأعلى» أو «الجنة» التى شيدها الحسن الصباح داخل القلعة، وتغزلوا فى وصف جماليات الحديقة التى اشتملت عليها، وكيف كانت تحتشد بكافة أنواع الأشجار والثمار، وتجرى بها الأنهار التى يتدفق فيها اللبن والعسل المصفى، وتتجول فيها الحور العين، ليهدين جمالهن إلى من يسمح له «شيخ الجبل» بدخول الجنة.
ذهب المؤرخون إلى أن «الصباح» شيد جنة على غرار الجنة التى وعد الله المتقين فى القرآن الكريم، وقطع بعضهم بأن الشيخ كان يمنح الفدائيين الذين يعدهم للقيام بعمليات الاغتيال مخدر «الحشيش»، ثم يدخلهم جنته لينعموا بما فيها من أطايب، ليطلقهم بعد ذلك على من يشاء من أعدائه ليعملوا فيهم خناجرهم، واعداً إياهم بأنهم بعد تنفيذ الاغتيالات سيخلدون فى هذه الجنة إلى الأبد، وقصة «الحديقة» وتعاطى مخدر «الحشيش» تبدو إلى الخيال الدرامى أقرب منها إلى حقائق ومعطيات الواقع، وقد ذكرت لك فيما سبق أن القدرة على التحكم فى حواس الجسد كانت تشكل جانباً من جوانب تدريب الفدائيين، وأن المسألة لم تكن مرتبطة بتعاطى «الحشيش»، وأن من تحركوا مع الحسن الصباح رأوا فيه أملاً، وزعيماً قادراً على إخراجهم من صحراء الظلم إلى جنات العدل، كان «شيخ الجبل» دقيقاً فى اختيار كوادره ممن يعانون إحساساً بالظلم، ليمارس عليهم تأثيره، مستغلاً قدراته الشخصية، ومهارته فى الإقناع، بحيث ينتهى الشخص إلى فكرة أن الحسن الصباح هو المخلص، وأن قلعة «آلموت» أرض الخلاص.
وقد جعل الحسن الصباح من قلعة آلموت نموذجاً استثنائياً، وسط نماذج لدول وجماعات تفشى فيها الظلم، وعم الفساد، وبقدر ما كان شيخ الجبل ميالاً إلى جعل الحياة داخل القلعة شديدة الصرامة والجدية، بقدر ما كان يستند إلى العدل فى حكم من يعيشون فيها، حتى ولو كانوا أبناءه، ويشير بعض المؤرخين إلى أنه قتل اثنين من أبنائه، وكانت جريمة أحدهما مجرد شرب الخمر، وبغض النظر عن جوانب الشطط الذى يصل إلى حد الخيال فيما يرويه المؤرخون حول عدل أو ظلم الحسن الصباح، إلا أن الباحث المدقق لا يملك وهو يحلل شخصية الرجل إلا أن يقرر أننا بصدد شخصية من طراز خاص، تتفاعل بداخلها الكثير من الثنائيات، من بينها على سبيل المثال: ثنائية الطموح والزهد، فبقدر ما تمتع «الصباح» بالطموح السياسى، فقد عاش حياته فى القلعة داخل حجرته التى لم يكن يخرج منها، إلا لماماً، وانكب على البحث والقراءة وكتابة رسائله الدعوية إلى مريديه، أضف إلى ذلك ثنائية رفض الظلم ومحبة العدل، ثم معالجة الظلم بظلم أكبر، ويبدو أن ذلك هو ديدن الثوار فى كل زمان ومكان، فهم يتحركون فى تمردهم على الواقع بدافع مقاومة الظلم، وبمجرد أن تواتيهم الفرصة تجدهم يسفكون الدماء، وهم الذين تباكوا بالأمس على الدم المسفوح، لكن يبقى أن «الصباح» استطاع أن يقدم نفسه فى صورة «المخلص» بالنسبة للبسطاء من الناس.
يقول «محمد كامل حسين» -فى كتابه «طائفة الإسماعيلية»- «لما عاد الحسن الصباح من مصر جمع حوله مجموعة من الفلاحين الإيرانيين، واستجاب له كل من شعر بظلم السلاجقة الأتراك وسوء حكمهم، ولا سيما السلطان ملكشاه السلجوقى الذى كان ظالماً غشوماً إلى أبعد حد، فقد اضطهد الناس جميعاً، ولا سيما الشيعة الإسماعيلية، وقتل منهم عدداً كبيراً، مما جعل الناس فى عهده تراودهم أحلام الشيعة الذهبية القديمة، من تمنى وجود إمام عادل يملأ الدنيا عدلاً بعد أن ملئت جوراً، فجاءهم الحسن الصباح يبشرهم بقرب تحقيق هذا الحلم»، ومن هؤلاء الفلاحين شكل «الحسن الصباح» فرق الاغتيالات الأولى التى استخدمها فى تصفية خصومه ومناوئيه، حتى انتهى به الأمر إلى الاستيلاء على قلعة «آلموت»، وعادى الحسن الصباح الجميع: الإسماعيلية المستعلية الذين أيدوا إمامة المستعلى، وبخسوا حق نزار بن المستنصر فى ولاية عهد أبيه، والسلاجقة الأتراك الذين كانوا يطاردون الإسماعيليين، والصليبيين الغربيين الذين جاءوا طامعين فى أرض المسلمين، والخلافة العباسية، والدولة الأيوبية، كان الحسن الصباح تركيبة تستعذب معاداة الجميع، لأنها ترى فى نفسها موطن الحق والحقيقة، وتعتبر غيرها على ضلال وباطل.
من داخل قلعة «آلموت» أدار الحسن الصباح عملياته، منتهجاً أسلوباً غير تقليدى فى القتال، لا يعتمد على فكرة «الجيش النظامى»، بل على فرق تنفذ عمليات محددة بأعلى درجات الدقة، وبالتالى يمكن القول بأنه خاض شكلاً من أشكال «حرب العصابات»، ونجح بها فى تدويخ أعدائه، وبث فى خصومه حالة من الرعب العنيف، بعد أن سيطر عليهم إحساس بأنهم معرضون للاغتيال بخناجر «الحشاشين» فى أى لحظة، وأنها قادرة على الوصول إليهم فى أى مكان، ودرس «حرب العصابات» كان من أهم وأخطر الدروس التى تعلمتها «جماعات السيف» من تنظيم «الحشاشين»، واعتبروها سبيلهم الوحيد لمواجهة الجيوش النظامية داخل المجتمعات المختلفة.


عناقيد الغضب .. ( 16 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

قـتـل نـجـاراً فـقـتـلـنـاه بـــه 
مثل أى جماعة سرية مسلحة تعتمد على التراتبية التنظيمية، كان يتم تصنيف من يعيشون داخل قلعة آلموت فى مجموعة من المراتب، أو الدرجات، التى تبدأ بـ«شيخ الجبل» وهو الحسن الصباح رأس السلطة داخل القلعة، ويأتى فى المرتبة الثانية كبار الدعاة المسئولين عن توجيه وإرشاد الدعاة العاديين الذين ينهضون بمهمة تربية الكوادر الجديدة التى تنضم إلى التنظيم، يظهر بعد ذلك «الرفاق» -من الكوادر التى تم تجنيدها- فى المرتبة الثالثة، ثم تأتى مجموعة «الفداوية» المسئولة عن تنفيذ عمليات الاغتيال، وهى كوادر من طراز خاص، يتم إعدادها وتهيئتها ذهنياً ونفسياً وبدنياً بالاستناد إلى طرق وأساليب محددة، ومن هذه الكوادر تتشكل «فرق الموت»، ثم يأتى «اللاصقون» فى المرتبة الأخيرة، ويتحددون فى الأفراد العاديين المحبين للتنظيم أو المتعاطفين معه، ولأن كل «جماعات السيف» التى نشأت بعد «الحشاشين» نهجت نهجها فى السرية والعمل المسلح، فقد اعتمدت هى الأخرى مجموعة من التصنيفات الأساسية للكوادر المنخرطة فيها.
داخل جماعة الإخوان -على سبيل المثال- يأتى على رأس التراتبية التنظيمية المرشد العام وهو رأس السلطة بها، ويعد مقابلاً موضوعياً لرتبة «شيخ الجبل»، يليه فى ذلك «الأخ المجاهد» المستعد للتضحية بماله وحياته فى سبيل الدعوة (فكر الجماعة)، ويقابل هؤلاء فى تنظيم الحشاشين «الفداوية»، وهناك مراتب أخرى بعد ذلك تصنف فى إطارها كوادر الجماعة تشمل: الأخ العامل (يقابلها الرفيق بالمصطلح الحشيشى)، ويعد جزءاً من التنظيم ومنضماً إليه بشكل رسمى، ثم الأخ المنتسب الذى يساهم فى خدمة أهداف الجماعة، ويعمل تحت مظلة شعاراتها وأفكارها، بشكل غير رسمى، وهناك الأخ المحب -أو اللاصق بالمصطلح الحشيشى- الذى يعد للدخول إلى مرتبة المنتسب ثم العامل بعد ذلك.
المجموعة الأخطر فى فرق الحشاشين كانت تلك الموصوفة بـ«الفداوية» أو «الضراوية» التى تنفذ عمليات الاغتيال، وارتبطت بداية عملها بواقعة ملفتة، يرجح بعض الباحثين أنها حدثت قبل استيلاء «الصباح» على قلعة «آلموت». يذكر «ابن الأثير» تفاصيل هذه الواقعة قائلاً: «أمر السلطان بقتل الباطنية، وهم الإسماعيلية وهم الذين كانوا قديماً يسمون قرامطة، ونحن نبتدئ بأول أمرهم الآن ثم بسبب قتلهم، فأول ما عرف من أحوالهم، أعنى هذه الدعوة الأخيرة التى اشتهرت بالباطنية، والإسماعيلية، فى أيام السلطان ملكشاه، فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلاً، فصلوا صلاة العيد فى ساوة، ففطن بهم آمر الشرطة، فأخذهم وحبسهم، ثم سئل فيهم فأطلقهم، فهذا أول اجتماع كان لهم، ثم إنهم دعوا مؤذناً من أهل ساوة كان مقيماً بأصبهان، فلم يجبهم إلى دعوتهم، فخافوه أن ينم عليهم، فقتلوه، فهو أول قتيل لهم، وأول دم أراقوه، فبلغ خبره إلى نظام الملك، فأمر بأخذ من يتهم بقتله، فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر، فقُتل، ومُثّل به، وجروا برجله فى الأسواق، فهو أول قتيل منهم».
تشير الواقعة السابقة إلى أن «الحشاشين» كان أول تنظيم يبتكر نظام الأسر، والدعوة الفردية لتكوين الخلايا الصغيرة، التى تتشكل من بسطاء الناس (نقيب هذه الأسرة كان نجاراً)، وأن الجانب السرى كان واضحاً فى أسلوب عملهم، بدليل أنهم تخلصوا من المؤذن الذى لم يستجب لدعوتهم، وقاموا بقتله، خوفاً من أن يفشى سرهم، فكان فى قتله فضحهم، وانتهى الأمر بالقبض على أعضاء الأسرة الثمانية عشر، وتم تنفيذ ما يشبه حكم الإعدام الشعبى على نقيبهم أو أميرهم المدعو «طاهر» وتم سحله وجره من رجليه بالأسواق فى مشهد، ربما يذكر القارئ الكريم أنه سمع أو رأى مثيلاً له منذ ما يقرب من عامين بقرية «زاوية أبومسلم» بمركز أبوالنمرس بالجيزة.
ويقول «ابن الأثير» إن تلك كانت «أول فتكة مشهورة كانت لهم»، يقصد الإسماعيلية، وقد تعددت هذه الفتكات بعد ذلك، إذ كان يكفى أن يقال إن هذه المجموعة أو تلك من الإسماعيليين، أو النزارية، أو الحشيشية، لينقض عليهم العامة ويفتكون بهم، مدفوعين فى ذلك بجهاز دعائى كان يستند بلا شك إلى العديد من الحقائق فى تعرية هذه المجموعات أمام الناس، لكنه فى المقابل، كان يستند إلى جملة من الأكاذيب، معتمداً فى ذلك على تمركز السلطة كمصدر للمعرفة والمعلومات داخل هذه المجتمعات (كانت تلك ولا تزال هى القاعدة المسيطرة)، بالإضافة إلى حالة العداء الأزلى بين الفكر السائد المهيمن على عقول البشر، وأى أفكار أخرى تحاول أن تطرح نفسها كبديل لما هو سائد، والناس فى الأغلب أسرى السائد، وبغض النظر عن درجة الوجاهة فيما طرحه «الحشاشون» من أفكار، إلا أن المؤكد أنهم حاولوا تقديم أنفسهم كمناصرين للفقراء والبسطاء، على سبيل الدعاية بالطبع، لكن دعايتهم المعتمدة على أفكار مخالفة للشائع كانت تنهزم فى الكثير من الأحيان أمام الدعاية المؤيدة والمروجة للسائد، وفى المجمل العام يمكن القول بأن الحشاشين لم يتورعوا هم الآخرون عن توظيف فرق «الفداوية» فى تصفية خصومهم بمنتهى الدموية، سواء كانوا فى مواقع السلطة أو فى دوائر العوام، وكان أشهر من أعملوا فيه خناجرهم بعد هذه الواقعة هو الوزير «نظام الملك» نفسه، وعندما ثأروا لأنفسهم -كما ذكر ابن الأثير- قالوا: قتل نجاراً -يقصدون نظام الملك- فقتلناه به!

عناقيد الغضب .. ( 15 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

طول البقاء فى السلطة وصناعة مراكز القوى
واقع الحال أن أطرافاً عدة كانت مستفيدة من اغتيال «نظام الملك»، من بينها «الحسن الصباح» الذى اعتبر الوزير عدوه المبين، بسبب الدور الذى لعبه فى مطاردة الخلايا «الإسماعيلية» التى كانت تتشكل فى مناطق مختلفة حول قلعة «آلموت»، أو بعيداً عنها، وكانت تمثل رافداً أساسياً من روافد ضخ المزيد من الكوادر إلى فرق الموت، وكان لكثير من الأسر «الإسماعيلية» ثأر مع «نظام الملك» بسبب قتله واحداً أو أكثر من أفرادها، وفى الوقت نفسه كان السلطان السلجوقى هو الآخر يخشى من تمدد نفوذ الوزير، خصوصاً أنه تمكن من تكوين شبكة عائلية من أبنائه وأحفاده استطاعت السيطرة على مفاصل الدولة، ووصل الحال بحفيده، كما حكيت لك إلى حد التجرؤ على السلطان نفسه، وقد كان السلطان من ناحيته يعلم أن هذه الخطوة لها ما يليها، وربما كانت التالية هى الانقضاض على سلطانه والاستيلاء على صولجان الحكم، وفى هذا السياق نستطيع أن نفهم تلك العبارات الحادة التى خاطب بها «ملكشاه» وزيره «نظام الملك» وقال له فيها: «إن كنت شريكى فى الملك، ويدك مع يدى فى السلطنة، فلذلك حكم، وإن كنت نائبى، وبحكمى، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة». أراد السلطان «ملكشاه» أن يضع النقاط فوق الحروف ويحدد موقع «نظام الملك» من السلطنة، وهو -كما يراه السلطان- موقع التبعية والنيابة، وليس الشراكة، لكن «نظام الملك» رد عليه بعبارات خشنة قاطعة تؤكد أنه شريكه فى الحكم، قال فيها: «إن كنت ما علمت أنى شريكك فى الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيرى ورأيى».
كان رد نظام الملك على السلطان حاسماً، ومؤكداً على أنه شريكه فى الملك، وأن فضله على السلطنة كبير، وأنه لولا تفكيره وتدبيره، لما استطاع «ملكشاه» أن يجلس على كرسى الحكم، وحقيقة الأمر أن وضع السلطان كان مهتزاً فى بدايات حكمه، ولعب الوزير «نظام الملك» دوراً مهماً فى تثبيت أوضاعه، يحكى ابن كثير أنه «لما توفى السلطان ألب أرسلان جلس ولده ملكشاه على سرير الملك، وقام الأمراء بين يديه، فقال له الوزير نظام الملك: تكلم أيها السلطان، فقال: الأكبر منكم أبى، والأوسط أخى، والأصغر ابنى، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه، فأمسكوا، فأعاد القول، فأجابوه بالسمع والطاعة، وقام بأعباء أمره الوزير نظام الملك فزاد فى أرزاق الجند سبعمائة ألف دينار وسار إلى مرو فدفنوا بها السلطان، ولما بلغ قاورت (أخو ألب أرسلان) موت أخيه السلطان ركب فى جيوش كثيرة، قاصداً قتال ابن أخيه ملكشاه، فالتقيا فاقتتلا فانهزم أصحاب قاورت، وأسر هو، فأنبه ابن أخيه، ثم اعتقله، ثم أرسل إليه من قتله»، لو تأملت كلام «ابن كثير» يمكنك أن تخلص بسهولة إلى أن «نظام الملك» هو الذى رتب تلك العبارات الحاذقة التى رددها «ملكشاه» على أسماع الأمراء المنافسين له: «الأكبر منكم أبى والأوسط أخى والأصغر ابنى»، وقد أمسك الأمراء عن بيعته فى البداية -كما يشير ابن كثير- وهو ما يدلل على أن أمره كان مهتزاً، وأن أغلبهم كان متبرماً من جلوسه على كرسى السلطنة، لكنهم بايعوا بعد ذلك، وربما كان أحد العوامل التى دفعتهم إلى ذلك إحساسهم بأن الوزير الكبير يقف مسانداً له، وفى الوقت نفسه كان القرار الذى اتخذه «نظام الملك» بزيادة أرزاق الجند من العوامل المهمة التى مكنت جيش «ملكشاه» من مواجهة أكبر تحد واجهه بعد الوصول إلى الحكم، عندما انقلب عمه عليه، وطمع فى وراثة سلطان أخيه، واستعان على ذلك بجيش كبير، لكنه لم يصمد أمام جيش كان «أتابكه» الوزير «نظام الملك».
كان «نظام الملك» يستوعب أن له فضلاً كبيراً على تثبيت أركان دولة «ملكشاه»، وقد كان الحال كذلك، لكن رده على السلطان يؤشر إلى أنه افتقد «حساسيته السياسية»، نتيجة تمدده وأبنائه وأحفاده داخل مفاصل الدولة، وأيضاً بسبب طول أمد البقاء موقع الوزارة، الأمر الذى أشعره بأنه مركز قوة، والدليل على ذلك أنه رغم رده الخشن على السلطان، فإنه لم يتباطأ عن الخروج معه فى الواقعة التى اغتيل فيها، لكن انتساب الفتى الذى اغتاله إلى طائفة الديلم وارتباط الطريقة التى اغتاله بها إلى مدرسة فرق الموت الحشيشية، يدفع البعض إلى تبرئة ساحة السلطان من قتله، واتهام الحسن الصباح بذلك. والأرجح أن دور السلطان السلجوقى فى اغتيال الوزير كان مهماً على مستوى تسهيل مهمة الفتى «الديلمى» الذى نفذ العملية الذى يرجح بالفعل أنه ينتمى إلى ثقافة «قلعة آلموت» وفرق الاغتيال التابعة لـ«الحسن الصباح»، فى ظل سياق زمنى يشهد على قيام «الحشاشين» بعمليات اغتيال واسعة ومتعددة، تأسيساً على رؤية ترتكز على حمل السلاح بهدف تصفية الخصوم السياسيين والعقائديين، والارتكان إلى الذبح كأداة أساسية من أدوات الصراع السياسى، رغم تناقض ذلك مع النصوص الصريحة فى القرآن التى تنهى عن الاعتداء على الغير بغير وجه حق، وتدعو إلى الصفح والعفو والتسامح، حتى مع الأعداء، وتحدد مواضع معينة يلجأ فيها المسلم إلى القتال دفاعاً عن النفس، ودون جور على الآخرين.

الأحد، 5 يوليو 2015

عناقيد الغضب .. ( 14 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

الحيلة والغيلة فى مقتل ( نظام الملك )
كان موقع «نظام الملك» لدى السلاطين السلاجقة مكيناً، فمكث فى موقع الوزير الأعظم تسعاً وعشرين عاماً، وانتشر أبناؤه وأحفاده فى أخطر المناصب والمواقع داخل الدولة. يقول ابن كثير فى ترجمته لـنظام الملك: «هو الحسن بن على بن إسحاق أبوعلى، وُزّر للملك ألب أرسلان وولده ملكشاه. كان من خيار الوزراء، قرأ القرآن وله إحدى عشرة سنة، وأشغله أبوه بالعلم والقراءات، والتفقه على مذهب الشافعى، وسماع الحديث واللغة والنحو، وكان عالى الهمة فحصل من ذلك طرفاً صالحاً، ثم ترقى فى المراتب، حتى وُزّر للسلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ثم من بعد لملكشاه. بنى المدارس النظامية ببغداد ونيسابور وغيرهما، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء، بحيث يقضى معهم غالب نهاره، فقيل له: إن هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: «هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسى لما استكثرت ذلك».
كان «نظام الملك» وزيراً محنكاً وعسكرياً قديراً، ولو صحت العبارة التى نسبت إليه وقال فيها عن الحسن الصباح: «قريباً يضل هذا الرجل ضعفاء العوام»، فإنها تنهض كدليل على ما تمتع به من فراسة وقدرة عالية على قراءة الشخصيات وتحليلها. وقد كانت هذه العبارة مدخلاً لاتهام «الحسن الصباح» باغتياله، من منطلق أن الأخير أراد الانتقام منه، لأنه كان سبباً فى خروجه من بلاط الحكم السلجوقى. ومن الطبيعى جداً أن يغار أى شخص يتمتع بالطموح السياسى الذى تمتع به الحسن الصباح من شخصية فى حجم «نظام الملك» الذى حظى بمنزلة كبيرة لدى السلاطين السلاجقة، ولم يكن بمقدور أى منهم الاستغناء عنه، ورغم ذلك فإننا لا نستطيع أن نحسم بشكل قاطع أن فرق الاغتيال التابعة لـ«الحسن الصباح» هى المسئول الأول عن اغتياله.
يحكى «ابن كثير» قصة اغتيال «نظام الملك» قائلاً: «خرج نظام الملك مع السلطان من أصبهان قاصداً بغداد فى مستهل رمضان، فلما كان اليوم العاشر اجتاز فى بعض طريقه بقرية بالقرب من نهاوند وهو يسايره فى محفة، فقال: قد قتل ههنا خلق من الصحابة زمن عمر، فطوبى لمن يكون عندهم، فاتفق أنه لما أفطر جاءه صبى فى هيئة مستغيث به ومعه قصة، فلما انتهى إليه ضربه بسكين فى فؤاده وهرب، وعثر بطنب الخيمة فأُخذ فقتل، ومكث الوزير ساعة، وجاءه السلطان يعوده فمات وهو عنده، وقد اتهم السلطان فى أمره أنه هو الذى مالأ عليه، فلم تطل مدته بعده سوى خمسة وثلاثين يوماً، وكان فى ذلك عبرة لأولى الألباب، وكان قد عزم على إخراج الخليفة أيضاً من بغداد فما تم له ما عزم عليه، ولما بلغ أهل بغداد موت النظام حزنوا عليه». وفى المقابل من رواية «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» حول واقعة اغتيال «نظام الملك»، أشار «ابن الأثير» - فى الكامل فى التاريخ- صراحة إلى أن من نفذ عملية الاغتيال فى «نظام الملك» هو صبى من الباطنية، ويقول فى ذلك: «بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج فى محفته إلى خيمة حرمه -يقصد نظام الملك- أتاه صبى ديلمى من الباطنية، فى صورة مستميح، أو مستغيث، فضربه بسكين كان معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة، فأدركوه فقتلوه، وركب السلطان إلى خيمته، فسكن عسكره وأصحابه».
وربما كانت تلك الإشارة إلى أن الصبى الذى اغتال «نظام الملك» من «الباطنية» هى التى بررت للبعض الذهاب إلى أن «الحسن الصباح» هو من خطط وأشرف على تنفيذ عملية اغتيال «نظام الملك»، على أساس أن الصبى كان من الباطنية، ووصف الباطنية كان أحد الأوصاف التى ينعت بها أتباع المذهب الإسماعيلى، كما أن الطريقة التى اغتيل بها الوزير والتى تستند إلى الحيلة والغيلة فى التخلص منه تؤشر أيضاً إلى أن قاتله ينتمى إلى فرق الاغتيال بقلعة «آلموت»، لكن كتب التاريخ تحكى -فى المقابل- أن أصل اغتيال «نظام الملك» ارتبط بإحساس السلطان السلجوقى بالغضب جراء تمدد نفوذه بالدولة، بعد أن أحكم قبضته عليها من خلال تعيين أبنائه وأحفاده فى مواقع الوزارة والحكم. يشير «ابن الأثير» إلى أن عثمان بن جمال الملك (حفيد نظام الملك) كان قد ولاه جده رئاسة مرو، وأرسل السلطان إليها واحداً من أكبر مماليكه، ومن أعظم الأمراء فى دولته، فجرى بينه وبين «عثمان» منازعة فى شىء، فحملت «عثمان» حداثة سنه، وتمكنه، وطمعه بجده، على أن قبض عليه، وأذله، ثم أطلقه، فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً، فأرسل السلطان إلى «نظام الملك» رسالة يقول له فيها: إن كنت شريكى فى الملك، ويدك مع يدى فى السلطنة، فلذلك حكم، وإن كنت نائبى، وبحكمى، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة، وولى ولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا. فرد «نظام الملك» على السلطان قائلاً: «إن كنت ما علمت أنى شريكك فى الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيرى ورأيى»، فاغتاظ السلطان لهذا الرد ووقع التدبير على نظام الملك، حتى تم عليه من القتل ما تم.

عناقيد الغضب .. ( 13 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

الثائر ووزير السلطنة 
لم تبرز قدرات «الحسن الصباح» فقط فى المنهجية التربوية التى اعتمد عليها فى إعداد كوادر جماعة «الحشاشين»، وإدارتهم، والسيطرة عليهم وتسخير قدراتهم لخدمة أهدافه، بل برزت أيضاًَ على مستوى آخر يتعلق بإدارة الصراع مع رموز السلطة التى ناصبها العداء، والمتمثلة فى سلاطين ووزراء الدولة السلجوقية، وعلى رأسهم الوزير «نظام الملك».
يذهب بعض الباحثين المعنيين بجماعة «الحشاشين» إلى أن الوزير السلجوقى الأشهر «نظام الملك» كان واحداً من مجموعة الأصدقاء الثلاثة التى جمعت كلاً من: الحسن الصباح والشاعر الفارسى عمر الخيام ونظام الملك، كان الرفاق الثلاثة زملاء دراسة على يد نفس المعلم فى نيسابور، وقد تعاهدوا فيما بينهم على أن يقوم من يحقق منهم نجاحاً فى هذه الدنيا، بمساعدة الاثنين الآخرين.
وكان «نظام الملك» أول من حصل على رتبة وسلطة، عندما أصبح وزيراً للسلطان السلجوقى، وتقول بعض المراجع إن «نظام الملك» أوفى بعهده، بأن منح عمر الخيام راتباً منتظماً، وأعطى «الصباح» منصباً رفيعاً فى الحكومة السلجوقية.
وبغض النظر عن وجه الدقة أو الزيف فى هذه الحكاية، إلا أن الثابت أن ثمة صراعاً قد نشب بين «الصباح» ووزراء وسلاطين الدولة السلجوقية، سواء كان «نظام الملك» أو غيره، وحقيقة الأمر أن المسألة لم تكن مجرد صراع بين شخصين (الثائر ووزير السلطنة)، بل صراعاً بين نظامين أحدهما حاكم ويتمثل فى الدولة السلجوقية، ووزيرها الأبرز «نظام الملك»، والآخر متمرد يناوئها العداء ويعلن الثورة عليه، ويقوده «الحسن الصباح» من قلعة «آلموت»، والأرجح أن الحسن الصباح تبنى خط الثورة، بعد أن لم تمنحه السلطة ما يشبع طموحاته، والواضح أنه كان يستهدف الزعامة المطلقة، ولم يكن للسلطة أن تسمح بوجود مثل هذا العنصر فى تركيبتها، لأنه قادر على ابتلاع منافسيه، خصوصاً إذا كانت لديه القدرات التى تمكنه من ذلك، أحس «نظام الملك» بالخطر الذى يمكن أن يصيبه جراء ظهور الحسن الصباح داخل مشهد الحكم، فلجأ إلى فضح طموحاته أمام السلطان.
يقول ابن الأثير فى كتابه الكامل: «وكان رئيس الرى شخصاً يقال له أبومسلم، وهو صهر نظام الملك، فاتهم الحسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة المصريين عليه، فخافه ابن الصباح، وكان نظام الملك يكرمه، وقال له يوماً من طريق الفراسة: عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام، فلما هرب الحسن من أبى مسلم طلبه فلم يدركه»، الواضح أن رئيس الرى «أبومسلم» كان يشعر بالخطر من الحسن الصباح، بسبب إحساسه بأنه يدبر للثورة ضد السلاجقة، ووجد فى لقاءاته التى يجريها مع دعاة المصريين (الإسماعيليين) دليلاً على ذلك، ورغم أن الوزير نظام الملك، كان يكرم «الصباح»، فإنه لم يجد غضاضة فى أن يثير ضغينة رئيس الرى عليه أكثر وأكثر، فقال له عن طريق الفراسة: «عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام».
كان دخول المصريين على الصباح مصدر قلق للسلطة السلجوقية، وكان الطموح الزائد أساس توجس «نظام الملك» من «الصباح»، وكانت النتيجة المطاردة التى أدت بالحسن إلى الهروب إلى مصر ليمكث فيها ثلاث سنوات، حسب بعض الروايات، ليخوض معارضة حامية الوطيس ضد الأفضل الجمالى، ويحكم عليه بالسجن، ليفر منه، ويبدأ فى التفتيش عن نقطة بداية، وأرض منيعة يمكن أن ينطلق منها إلى مناوءة الدولة السلجوقية التركية، ووجد ضالته فى قلعة «آلموت»، وكان استيلاء «الحسن» على هذه القلعة إيذاناً ببدء حربه على السلاجقة ووزير دولتهم، ولو صحت رواية «ابن الأثير» فإن الوزير الأشهر «نظام الملك» كان هو الآخر متربصاً بالحسن الصباح، والدليل على ذلك أنه حاول إغراء أبى مسلم رئيس «الرى» به.
كان «نظام الملك» محل احترام من جانب السلاطين السلاجقة الذين عمل معهم، خصوصاً السلطان «ألب أرسلان»، وعندما حاول بعضهم تشويه صورته أمام السلطان، استدعاه وأعطاه رسالة «الوشاية» -كما يحكى ابن كثير- وقال له: «خذ إن كان هذا صحيحاً فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم»، فلم يكن من السهولة بمكان أن ينقلب السلطان على وزيره الأثير، بسبب الدور الذى قام به فى دعم سلطانه، يشير ابن كثير فى البداية والنهاية إلى أن: «السلطان ألب أرسلان اعتمد فى الوزارة على نظام الملك وكان وزير صدق يكرم العلماء والفقراء ولما عصى الملك شهاب الدولة قتلمش، وخرج عن الطاعة وأراد أخذ ألب أرسلان، خاف السلطان، فقال له الوزير: أيها السلطان لا تخف فإنى قد استدمت لك جنداً ما بارزوا عسكراً إلا كسروه كائناً من كان، قال له الملك: من هم؟ قال: جند يدعون لك وينصرونك بالتوجه فى صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والفقراء الصلحاء، فطابت نفس السلطان بذلك، فحين التقى مع قتلمش لم ينظره أن كسره، وقتل خلقاً من جنوده، وقتل قتلمش فى المعركة، واجتمعت الكلمة على ألب أرسلان». لقد لعب «نظام الملك» دوراً مهماً فى تخليص السلطان من أعدائه ومنافسيه، وعندما مات «ألب أرسلان» وخلفه السلطان «ملكشاه» ظل «نظام الملك» وزيراً له وقربه الأخير منه أكثر وأكثر، يقول «ابن كثير»: «وخلع ملكشاه على الوزير نظام الملك خلعاً سنية، وأعطاه تحفاً كثيرة، من جملتها عشرون ألف دينار، ولقبه أتابك الجيوش».

عناقيد الغضب .. ( 12 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

البيعة .. طاعة للقيادة تعاهد على القتال
البيعة جوهر من جواهر الانضمام إلى جماعات السيف، وتمثل حالة من حالات الاسترجاع الأصولى لبيعة الرضوان التى وقعت قبيل صلح الحديبية، بعد تردد إشاعة عن مقتل عثمان بن عفان على أيدى مشركى مكة. فقد دعا النبى صلى الله عليه وسلم صحابته يومها إلى مبايعته على قتال قريش، وسُميت ببيعة «الرضوان»، لأن الله رضى عن المشاركين فيها، مصداقاً لقوله تعالى: «لَقَدْ رَضِىَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً». وربما كانت جماعة «الحشاشين» أول من استعاد هذا التقليد، ولكن فى سياق مختلف، حين بدأت عناقيد الغضب رحلتها الأولى، وبدأت تعالج خصوماتها وتسعى إلى تحقيق أهدافها من خلال السيف، حتى ولو كان موجهاً نحو مسلمين، وكان مبرر ذلك نظرتهم إلى غيرهم ممن ينطقون بشهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كمجموعة من الضالين الذين غاب عنهم الفهم الصحيح للإسلام، وأن جماعتهم هى القادرة على انتشال هؤلاء من وهدة الضلال، لأنها تمتلك فهماً صحيحاً، ومن عداها فى ضلال مبين.
طبيعة وأهداف فرق الاغتيال أو الموت، كما أسس لها الحسن الصباح، جعلت من البيعة ضرورة لازمة وفريضة واجبة على العضو المنخرط فيها، لأن أصل فكرة البيعة هو الطاعة، وجوهرها التعاهد على القتال. يشير «المقريزى» فى خططه إلى أنه لم يكن يسمح للمدعو بالاندماج داخل «جماعة المذهب»، والانخراط فيها إلا بعد أن يأخذ منه الداعية «صفقة يده»، أو «البيعة» بالتعبير الحديث، ليصبح رفيقاً (يطلق على العضو المنتمى أو المبايع فى أدبيات الحشاشين «الرفيق») وكان نص البيعة، كما يقرر المقريزى، على النحو التالى: «يقول الداعية للمدعو: أخبر الله تعالى أنه لم يملك حقه إلا من أخذ عهده، فأعطنا صفقة يمينك، وعاهدنا بالموكّد من أيمانك وعقودك ألا تُفشى لنا سراً، ولا تُظاهر علينا أحداً، ولا تطلب لنا غيلة، ولا تكتمنا نصحاً، ولا توالى لنا عدواً، فإذا أعطى المدعو العهد قال له الداعى: أعطنا جُعلاً من مالك نجعله مقدمة أمام كشفنا لك الأمور وتعريفك إياها، والرسم فى هذا الجُعل بحسب ما يراه الداعى».
والمتأمل لنص البيعة السابق يلاحظ بُعدها الواضح عن المسألة الدينية أو الإيمانية، ويلاحظ أن اسم الله تعالى لا يحضر فيها إلا فى سياق التوثيق وعقد الأيمان، وهى فى المجمل تؤكد على الحفاظ على أسرار الجماعة (الحشاشين)، والولاء القاطع لها، وعدم الكيد لها أو مظاهرة عدو عليها. وترتكن كافة الجماعات التى تشكلت فى تاريخنا الحديث والمعاصر إلى فكرة البيعة، وتنص عليها كبوابة لانضمام العضو إليها. يحدث هذا داخل جماعة الإخوان، حيث جعل المرحوم حسن البنا -المرشد الأول لها- «البيعة» مدخلاً لعبور العضو العامل إلى الجماعة. ويبايع عضو الإخوان إمامه بالنص التالى: «أبايعك بعهد الله وميثاقه على أن أكون جندياً مخلصاً فى جماعة الإخوان المسلمين، وعلى أن أسمع وأطيع فى العسر واليسر، والمنشط والمكره، إلا فى معصية الله، وعلى أثرة علىّ، وعلى ألا أنازع الأمر أهله، وعلى أن أبذل جهدى ومالى ودمى فى سبيل الله ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. والله على ما أقول وكيل: (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)». وكما هو الحال فى بيعة «الحشيشية» يحضر المولى عز وجل فى البيعة الإخوانية فى سياق الحلف والتوثيق، وتظهر مرتكزات الجندية -بما تحمله من دلالات قتالية- والإخلاص للإخوان، بالإضافة إلى الطاعة، والخضوع لأولى الأمر داخل الجماعة، وعدم منازعتهم فى مواقعهم القيادية، بالإضافة إلى بذل الجهد والمال (الجُعل بالتعبير الحشيشى) فى سبيل الله (كما تحدده الجماعة بالطبع).
وتظهر البيعة أيضاً فى تنظيم «داعش» ونصُّها: «أبايع أمير المؤمنين أبا بكر البغدادى الحسينى القرشى على السمع والطاعة، فى المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى إقامة دين الله، وجهاد عدو الله، وعلى إقامة الدولة الإسلامية، والذبّ عنها، والله على ما أقول شهيد». وواضح فى نص البيعة «الداعشية» حالة التقاطع بينها وبين البيعة الإخوانية، خصوصاً فى سياق التأكيد على مفهوم طاعة الإمام، ومفهوم الجهاد والقتال من أجل تحقيق أهداف «الجهاد فى سبيل الله» و«إقامة دين الله وإقامة الدولة الإسلامية» التى تتخفى وراءها الأهداف السياسية لكل من «الإخوان» و«داعش». فى كل الأحوال تشكل «بيعة الإمام» أو القائد الذى يسوس الجماعة، بدءاً من الحسن الصباح وحتى أبى بكر البغدادى، ركناً أصيلاً من أركان التجنيد داخل جماعات الغضب، وإذا كان لفظ الإمام لا يتسق مع سياق تنظيم «داعش» الذى يصف قائده بـ«الخليفة»، انطلاقاً من أن التنظيم هو فى التحليل الأخير عبارة عن «دولة»، خلافاً للجماعات الأخرى، على الأقل حتى الآن، فإنه متسق إلى حد كبير مع القاموس الإخوانى الذى يلقب المرشد العام فيه بـ«الإمام» فى تقاطع غريب بين ذلك الوصف الشيعى الأصيل وبين الجماعة التى تدين بمذهب أهل السنة والجماعة، وكأنها تؤيد التسنن فى الدين والتشيع فى السياسة.

عناقيد الغضب .. ( 11 ) .. بقلم الدكتور/ محمود خليل

فى تمويل الجماعات : الضرورات تبيح المحظورات
التمويل عامل أساسى من العوامل التى تسهل أو تعقد على القيادة الساعية إلى تكوين واحدة من «جماعات السيف» وفرق «اغتيالات» إنجاز هدفها، فتوافر التمويل شرط حاسم وفاصل فى هذا السياق، فالتمويل ضرورى للحصول على السلاح، والإنفاق على الخلايا، بل والدويلات حين يلزم ذلك. وقد رسم «الحسن الصباح»، مؤسس الحشاشين، خريطة واضحة المعالم تحدد المصادر المختلفة التى يمكن الاعتماد عليها فى تمويل أعمال الجماعة وعملياتها، سواء من خلال مساهمات الأعضاء أو جمع الزكاة لحساب الجماعة أو سلب ونهب ممتلكات الضحايا وثروات الأراضى التى يتم الاستيلاء عليها. وتعد «الفريضة المالية» على الأعضاء المصدر الأول لتمويل الجماعة، ويطلق عليها فى المذهب الإسماعيلى: «صدقة النجوى». ويشير «المقريزى» إلى أن الداعية الذى يتصدر مجالس الدعوة -أو مجالس الحكمة فى تسمية أخرى- كان المسئول عن أخذ النجوى من الأعضاء بالقاهرة ومصر وأعمالها، لا سيما الصعيد، ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث درهم، فيجتمع من ذلك شىء كثير يحمله إلى الإمام بيده». كانت «صدقة النجوى» أشبه بالاشتراكات -بالمصطلح الحديث- التى يدفعها الأعضاء إلى الجماعة التى ينتمون إليها لتوفير المال فى يد قائدها. وتوازى مع «صدقات النجوى» الثابتة صدقات أعلى أشبه بالهبات أو التبرعات، كان يقدمها من أطلق عليهم «المقريزى» الإسماعيلية الممولين. ومن بين الإسماعيلية الممولين من يحمل ثلاثة وثلاثين ديناراً وثلث دينار على حكم النجوى، وينال مقابل ذلك رقعة مكتوبة باسمه، متوجة بعبارة: «بارك الله فيك وفى مالك وولدك وفى دينك»، وممهورة بتوقيع الإمام. يضاف إلى هذا المصدر جمع زكاة الفطر، ويقول المقريزى: «وكان يحصل من ذلك مال جليل يدفع إلى بيت المال».
وبعيداً عن هذه المصادر التقليدية، كانت هناك مصادر أخرى للتمويل يحصل عليها أتباع «الحسن الصباح» عبر حالات السطو والنهب التى كانت تمارسها فرق الاغتيال، بعد إتمام عملياتها، سواء كان سطواً على الممتلكات الخاصة، أو نهباً لخيرات وثروات تكتنزها الأراضى التى يسيطرون عليها. وليس من المستبعد بالطبع أن تنظر «جماعات السيف» إلى هذا الحصاد المالى كغنيمة حرب، لتمنح أفعالها المجرمة أخلاقياً سنداً شرعياً، أما التمويل الأجنبى، فلم يكن حاضراً بهذا المعنى خلال الفترة التى شهدت ظهور شخصية «الصباح»، لكن ليس من المستبعد أن يكون «الصباح» قد حصل على تمويل للدويلة التى شيدها داخل قلعة «آلموت» من مؤيدى «الإسماعيلية النزارية» داخل وخارج مصر (موطن نشأة هذا المذهب).
نستخلص مما سبق أن هناك أربعة مصادر أساسية من المتصور أن الحسن الصباح اعتمد عليها فى تمويل جماعته، تتمثل فى صدقات النجوى، وجمع الزكاة، وقبول الهبات، ومغانم عمليات الاغتيال والقتل التى يقومون بها، ولا توجد شواهد قوية دالة على حصوله على تمويل من مصادر أخرى خارج دائرة عمله ونشاطه فى جبال الديلم وقلعة «آلموت». ومن الملاحظ وجود نوع من الاتفاق بين الكثير من جماعات السيف فى الاعتماد على جمع أموال الزكاة والهبات كمصدر للتمويل، وهى ترى فى نفسها الأهلية والأحقية فى جمع أموال الزكاة، رغم الطابع الفردى الذى يميز أداء هذه الفريضة، وحق الفرد فى أن يتخير فى بذلها، ما بين توجيهها إلى أفراد أو إلى جهة معينة دون ضغط أو إكراه، لكن الواضح أن أغلب هذه الجماعات تكره أعضاءها والمتعاطفين معها على وضع الزكاة بين أيدى قادتها للانتفاع بها فى تمويل أنشطتها. أما «صدقة النجوى» فقد كانت تؤدى إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، عملاً بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». ويذهب أغلب الفقهاء إلى أنها نسخت ولم يعد معمولاً بحكمها، ورغم ذلك كان «الحشاشون» يعملون بها. ومن الملفت أن تجد جماعة مثل الإخوان تجمع من أعضائها ما يشبه صدقة النجوى من خلال ما يسمى بـ«الاشتراك الشهرى»، الذى يدفعه العضو المنتمى إليها بعد تسميته كواحد من «الإخوة» -بالتعبير الإخوانى- داخل أسرة من أسر الجماعة. ويصل هذا الاشتراك فى بعض التقديرات إلى ما يساوى (5%) من دخل العضو شهرياً. وتعتمد الجماعة أيضاً على جمع الهبات والتبرعات التى تأتيها من مصادر عديدة بحكم الوجود الدولى الذى تحظى به، وإذا كانت المؤشرات الدالة على لجوء جماعة الحشاشين إلى التمويل الخارجى محدودة، فإن المؤشرات الدالة على ذلك لدى الإخوان واضحة، سواء إذا راجعنا ماضى الجماعة وما تثبته الدراسات التاريخية من وجود مصادر للتمويل الأجنبى خلال السنوات الأولى لنشأتها، أو تأملنا حاضرها وسخاءها الملحوظ فى الإنفاق على الانتخابات البرلمانية والرئاسية التى خاضتها بعد يناير 2011. مثلت عمليات سلب ونهب ممتلكات الخصوم وخيرات أراضيهم مصدراً مهماً أيضاً من مصادر تمويل جماعة الحشاشين، ولعل أكثر تنظيمات السيف التى حذت حذوها على هذا المستوى تتحدد فى تنظيم «داعش»، فهو يعتمد على نهب ثروات الأراضى التى يسيطر عليها. وهذه الثروات، وخصوصاً البترول، يجلب له مالاً وفيراً، ناهيك عن التربح من عمليات الخطف وتجارة المخدرات وغسل الأموال، وتقديرى أن العديد من جماعات السيف لا ترى مندوحة فى الحصول على المال من أبواب محرمة شرعاً، مثل تجارة المخدرات، متذرعة فى ذلك بقاعدة أن ضرورات «الجهاد المسلح» تبيح المحظورات.

عناقيد الغضب .. ( 10 ) ... بقلم الدكتور/ محمود خليل

عناقيد الغضب .. من (الحسن الصباح) .. إلى (البغدادى)
رأيت كيف حكى المرحوم عمر التلمسانى تجربة انضمامه إلى جماعة الإخوان على يد «نقباء» المرحوم «حسن البنا»، ووصف «نقيب» يعبر عن مفردة مشتركة بين القاموس الإخوانى، وقاموس «الحشاشين» أتباع «الحسن الصباح». يقول المقريزى فى خططه إن الداعية كان مسئولاً عن أخذ النجوى، وهى صدقات كانت تجمع مقابل إتاحة الفرصة أمام المريد للاستماع إلى الداعية والحديث إليه، ويتم تسليمها بعد ذلك إلى الخليفة فيفرض له -أى للداعية- ما يعينه لنفسه و«للنقباء»، مفردة النقباء التى وردت فى هذا الجزء من كلام المقريزى يعرفها جيداً من لديهم بعض الخبرة بالهيكل التنظيمى للإخوان، تشير مواقع الجماعة إلى أن: «نقيب الأسرة -والأسرة هى الوحدة الأصغر فى التنظيم الإخوانى- هو القيادة الأولى فى الجماعة، بل هو المربى لأفراد الأسرة، والمخطط لجهودهم والمنسق بينها، والقادر على توجيهها وتوظيفها للوصول إلى الهدف، ومهمته جليلة القدر عظيمة الشأن، إذ هى فى حقيقتها: تربية الأفراد على الآداب والقيم الإسلامية أساساً، وعلى نظم الجماعة ولوائح هذه النظم»، يشير التوصيف السابق إلى أن وظيفة النقيب من أخطر الوظائف داخل تنظيم الإخوان، كما كانت كذلك فى جماعة «الحشاشين»، ويرى البعض أن مهام النقيب تصل فى أحوال إلى القيام بعمليات عنف ضد خصوم الجماعة، عندما يكون النقيب عضواً فى النظام الخاص.
وينقلنا الحديث عن دور الدعاة والنقباء فى تربية وإعداد الكوادر داخل التنظيمات العنقودية إلى تناول المراحل المختلفة التى يمر بها الجهد الدعوى الموجه إلى الكوادر التى كان «الإسماعيليون» يستهدفون ضمهم إلى جماعتهم، والتى تتقاطع فى جوانب عديدة منها مع مسارات وأساليب الدعوة التى تنتهجها العديد من جماعات السيف التى ظهرت على مدار المراحل المختلفة من تاريخ المسلمين، يشير «المقريزى» فى خططه إلى أن الدعوة الإسماعيلية اعتمدت على عدد من الخطوات أو المراتب التى يتنقل بينها المريد، وكلما اجتاز مرحلة بنجاح، انتقل إلى ما يليها، وهو الأسلوب الذى اعتمده الحسن الصباح، وطبقه على مريديه كى يؤهلهم للانخراط داخل «فرق الموت»، وتتمثل أولى مراحل الدعوة الإسماعيلية، كما يقول «المقريزى»، فى: «سؤال الداعى لمن يدعوه إلى مذهبه عن المشكلات وتأويل الآيات، وشىء من الطبيعيات، والأمور الغامضة، فما معنى قول الفلاسفة الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير؟ ولم كانت قامة الإنسان منتصبة دون غيره من الحيوانات؟ ولم كان فى يديه من الأصابع عشرة وفى رجليه عشرة أصابع؟ ولم فى كل أصبع من أصابع يده ثلاثة شقوق إلا الإبهام؟ فإذا كان المدعو عارفاً سلم له الداعى، وإلا تركه يعمل عقله فيما ألقاه عليه من الأسئلة، وقال له يا هذا إن الدين لمكتوم وإن الأكثر له منكرون وبه جاهلون، ولو علمت هذه الأمة ما خص الله به الأئمة من العلم لم تختلف، فإذا علم منه الإقبال أخذ فى ذكر معانى القراءات وشرائع الدين، وتقرير أن الآفة التى نزلت بالأمة وشتت الكلمة وأورثت الأهواء المضلة ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حافظين لشرائعهم يؤدونها على حقيقتها ويحفظون معانيها ويعرفون بواطنها»، تستهدف هذه المرحلة كما هو واضح استغلال الفجوات المعرفية لدى البسطاء، سواء فيما يتعلق بالدين أو الدنيا، والتأكيد على أهمية أن يكون للمؤمن إمام يجلى له ما خفى عليه من أموره، ويفسر له معانى الآيات، ودلالات الأحكام الشرعية وغير ذلك.
ويتعجب المحلل وهو يراجع مراحل الدعوة الفردية كما تبينها أدبيات الإخوان، من ذلك التقاطع الملفت بين الخطوات الأولى للدعوة لدى الحشاشين (الإسماعيليين) والخطوات المماثلة لها داخل جماعة الإخوان والتى تحدد أهداف الدعوة الفردية فى: «إيقاظ الإيمان المخدر فى نفس المدعو، ولا يكون الحديث حول قضية الإيمان مباشراً، ولكن الأفضل أن يأتى طبيعياً وكأنه دون قصد، بانتهاز فرصة رؤية طائر أو نبتة أو حشرة أو أى مخلوق من خلق الله ويتحدث معه عن قدرة الله وإبداعه وعظمته فى هذا الخلق، ويوضح مثلاً كيف ينبت هذا النبات من طين وماء ويختلف بعضه عن بعض فى الساق والأوراق والأزهار والثمار والألوان والرائحة والطعم وهى تسقى بماء واحد ومن طين واحدة (صنع الله الذى أتقن كل شىء) (هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه) وهل يستطيع العلماء مع ما وصلوا إليه من علم أن يصنعوا حبة قمح مثلاً فى معاملهم، بحيث لو وضعوها فى الأرض ورويت بالماء أن تنبت عوداً من القمح؟ إنهم لن يستطيعوا لأن سر الإنبات فى الحبة التى خلقها الله من اختصاص الله وحده، ولا يستطيع بشر أن يودعه فى حبة صناعية، كما أن أهل الأرض جميعاً لو اجتمعوا ليخلقوا ذبابة ما استطاعوا، فالخلق والحياة من اختصاص الله وحده».
جوهر التقاطع هنا يرتبط بمرتكزين: يتعلق أولهما بفكرة «الإيمان المكتوم» لدى «الحشيشية»، و«الإيمان المخدر» لدى الإخوان، والمسئول عن تجلية الإيمان أو إيقاظه فى نفس المدعو هو الداعية فى الحالتين، الذى تسيطر عليه فكرة امتلاك الحقيقة الإيمانية واستحواذه على جوهر الفهم الأصوب للإسلام، أما المرتكز الثانى فيتصل باللجوء إلى بعض المسائل الطبيعية لتمهيد المريد للدخول إلى عالم الإيمان، من خلال استثارة عقله بأسئلة أو ملاحظات، يعقبها تقديم إجابات دينية، وليس علمية، عليها تبعاً لفهم ورؤية الداعية.