الأحد، 5 يوليو 2015

عناقيد الغضب .. ( 11 ) .. بقلم الدكتور/ محمود خليل

فى تمويل الجماعات : الضرورات تبيح المحظورات
التمويل عامل أساسى من العوامل التى تسهل أو تعقد على القيادة الساعية إلى تكوين واحدة من «جماعات السيف» وفرق «اغتيالات» إنجاز هدفها، فتوافر التمويل شرط حاسم وفاصل فى هذا السياق، فالتمويل ضرورى للحصول على السلاح، والإنفاق على الخلايا، بل والدويلات حين يلزم ذلك. وقد رسم «الحسن الصباح»، مؤسس الحشاشين، خريطة واضحة المعالم تحدد المصادر المختلفة التى يمكن الاعتماد عليها فى تمويل أعمال الجماعة وعملياتها، سواء من خلال مساهمات الأعضاء أو جمع الزكاة لحساب الجماعة أو سلب ونهب ممتلكات الضحايا وثروات الأراضى التى يتم الاستيلاء عليها. وتعد «الفريضة المالية» على الأعضاء المصدر الأول لتمويل الجماعة، ويطلق عليها فى المذهب الإسماعيلى: «صدقة النجوى». ويشير «المقريزى» إلى أن الداعية الذى يتصدر مجالس الدعوة -أو مجالس الحكمة فى تسمية أخرى- كان المسئول عن أخذ النجوى من الأعضاء بالقاهرة ومصر وأعمالها، لا سيما الصعيد، ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث درهم، فيجتمع من ذلك شىء كثير يحمله إلى الإمام بيده». كانت «صدقة النجوى» أشبه بالاشتراكات -بالمصطلح الحديث- التى يدفعها الأعضاء إلى الجماعة التى ينتمون إليها لتوفير المال فى يد قائدها. وتوازى مع «صدقات النجوى» الثابتة صدقات أعلى أشبه بالهبات أو التبرعات، كان يقدمها من أطلق عليهم «المقريزى» الإسماعيلية الممولين. ومن بين الإسماعيلية الممولين من يحمل ثلاثة وثلاثين ديناراً وثلث دينار على حكم النجوى، وينال مقابل ذلك رقعة مكتوبة باسمه، متوجة بعبارة: «بارك الله فيك وفى مالك وولدك وفى دينك»، وممهورة بتوقيع الإمام. يضاف إلى هذا المصدر جمع زكاة الفطر، ويقول المقريزى: «وكان يحصل من ذلك مال جليل يدفع إلى بيت المال».
وبعيداً عن هذه المصادر التقليدية، كانت هناك مصادر أخرى للتمويل يحصل عليها أتباع «الحسن الصباح» عبر حالات السطو والنهب التى كانت تمارسها فرق الاغتيال، بعد إتمام عملياتها، سواء كان سطواً على الممتلكات الخاصة، أو نهباً لخيرات وثروات تكتنزها الأراضى التى يسيطرون عليها. وليس من المستبعد بالطبع أن تنظر «جماعات السيف» إلى هذا الحصاد المالى كغنيمة حرب، لتمنح أفعالها المجرمة أخلاقياً سنداً شرعياً، أما التمويل الأجنبى، فلم يكن حاضراً بهذا المعنى خلال الفترة التى شهدت ظهور شخصية «الصباح»، لكن ليس من المستبعد أن يكون «الصباح» قد حصل على تمويل للدويلة التى شيدها داخل قلعة «آلموت» من مؤيدى «الإسماعيلية النزارية» داخل وخارج مصر (موطن نشأة هذا المذهب).
نستخلص مما سبق أن هناك أربعة مصادر أساسية من المتصور أن الحسن الصباح اعتمد عليها فى تمويل جماعته، تتمثل فى صدقات النجوى، وجمع الزكاة، وقبول الهبات، ومغانم عمليات الاغتيال والقتل التى يقومون بها، ولا توجد شواهد قوية دالة على حصوله على تمويل من مصادر أخرى خارج دائرة عمله ونشاطه فى جبال الديلم وقلعة «آلموت». ومن الملاحظ وجود نوع من الاتفاق بين الكثير من جماعات السيف فى الاعتماد على جمع أموال الزكاة والهبات كمصدر للتمويل، وهى ترى فى نفسها الأهلية والأحقية فى جمع أموال الزكاة، رغم الطابع الفردى الذى يميز أداء هذه الفريضة، وحق الفرد فى أن يتخير فى بذلها، ما بين توجيهها إلى أفراد أو إلى جهة معينة دون ضغط أو إكراه، لكن الواضح أن أغلب هذه الجماعات تكره أعضاءها والمتعاطفين معها على وضع الزكاة بين أيدى قادتها للانتفاع بها فى تمويل أنشطتها. أما «صدقة النجوى» فقد كانت تؤدى إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، عملاً بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». ويذهب أغلب الفقهاء إلى أنها نسخت ولم يعد معمولاً بحكمها، ورغم ذلك كان «الحشاشون» يعملون بها. ومن الملفت أن تجد جماعة مثل الإخوان تجمع من أعضائها ما يشبه صدقة النجوى من خلال ما يسمى بـ«الاشتراك الشهرى»، الذى يدفعه العضو المنتمى إليها بعد تسميته كواحد من «الإخوة» -بالتعبير الإخوانى- داخل أسرة من أسر الجماعة. ويصل هذا الاشتراك فى بعض التقديرات إلى ما يساوى (5%) من دخل العضو شهرياً. وتعتمد الجماعة أيضاً على جمع الهبات والتبرعات التى تأتيها من مصادر عديدة بحكم الوجود الدولى الذى تحظى به، وإذا كانت المؤشرات الدالة على لجوء جماعة الحشاشين إلى التمويل الخارجى محدودة، فإن المؤشرات الدالة على ذلك لدى الإخوان واضحة، سواء إذا راجعنا ماضى الجماعة وما تثبته الدراسات التاريخية من وجود مصادر للتمويل الأجنبى خلال السنوات الأولى لنشأتها، أو تأملنا حاضرها وسخاءها الملحوظ فى الإنفاق على الانتخابات البرلمانية والرئاسية التى خاضتها بعد يناير 2011. مثلت عمليات سلب ونهب ممتلكات الخصوم وخيرات أراضيهم مصدراً مهماً أيضاً من مصادر تمويل جماعة الحشاشين، ولعل أكثر تنظيمات السيف التى حذت حذوها على هذا المستوى تتحدد فى تنظيم «داعش»، فهو يعتمد على نهب ثروات الأراضى التى يسيطر عليها. وهذه الثروات، وخصوصاً البترول، يجلب له مالاً وفيراً، ناهيك عن التربح من عمليات الخطف وتجارة المخدرات وغسل الأموال، وتقديرى أن العديد من جماعات السيف لا ترى مندوحة فى الحصول على المال من أبواب محرمة شرعاً، مثل تجارة المخدرات، متذرعة فى ذلك بقاعدة أن ضرورات «الجهاد المسلح» تبيح المحظورات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق