الجمعة، 26 يونيو 2015

عناقيد الغضب .. (5) .. بقلم الدكتور/ محمود خليل

الشباب .. وقود فرق الموت
وجود «المظلومية» لا يكفى وحده للترويج للفكرة المتبلورة حولها، وظهور القائد الماهر الذى يجيد توظيف الفكرة لا يضمن فى كل الحالات أن تتحول إلى تنظيم. ثمة شرط ثالث لا بد أن يتكامل مع وجود المظلومية، وظهور القائد، يتمثل فى السياق الحاكم، والظروف التاريخية التى تتعاصر مع الفكرة والقائد، فإذا كانت مواتية نجح القائد فى ترجمة فكرته إلى تنظيم، وإذا لم تكن شق عليه الأمر واستعصى. والناظر إلى الظرف التاريخى الذى نشأت فيه «المظلومية النزارية» وظهر فيه حسن الصباح سيجد أنه كان مناسباً ومواتياً لفكرة إنشاء التنظيمات والجماعات التى تبرر لنفسها حمل السلاح لأطر الواقع على أفكارها.
كانت الفترة التى تعاصرت مع مطلع القرن الخامس للهجرة مليئة بالصراعات والتحديات، وعرفت بعنفها وتقلباتها وغموضها، فقد شهدت هجوماً واسعاً ومتنوعاً من جانب الصليبيين على العالم الإسلامى، وخصوصاً فى بلاد الشام، وقيام إمارات الأيوبيين على أنقاض الخلافة الفاطمية، بالإضافة إلى الهجمات السلجوقية على «بغداد» عاصمة الخلافة العباسية. كان السلاح خلال تلك الفترة أداة الصراع وجوهره، ومبتدأه وخبره، وكانت الساحة الإسلامية محتشدة بالقوى والفرق التى يحاول كل منها السيطرة على المشهد من خلال إعمال أدوات القوة، وكانت المخاطر التى تبرر حمل السلاح فى ظل مناخ من الصراعات الضارية جمة ومتنوعة. الكل استخدم السلاح فى صراعاته على الحكم، أو بهدف حماية الأراضى الإسلامية من الحملات الصليبية.
شرط توافر السياق المواتى يعلو فى قيمته على تحقق المظلومية، لأن المظلومية شرك بين البشر، وموجودة فى كل زمان ومكان، وتزيد أهمية هذا الشرط على توافر القيادة القادرة على بلورة المظلومية فى فكرة يتحلق حولها أتباع يتشكل منهم تنظيم، لأن تاريخ البشر لا يخلو فى الأغلب من شخصيات قادرة على ذلك، دون أن تجد من يستجيب لها، إذا لم تتوافر فى الواقع شروط تأجيج الفكرة فى نفوس الأتباع، وإبراز القائد كشخصية كاريزمية قادرة على التعامل بمهارة مع صراعات الواقع، وترجمة أشواق أتباعه فى تغييره، وإعدادهم، لكى يقوموا بدورهم فى هذا المقام.
وقد هيأ السياق لجماعة «الحشاشين» بقيادة الحسن الصباح فرصة غسل عمليات الاغتيال السياسى، بعمليات «الجهاد الدينى». ففرق «الفدائية» التى تورطت فى عمليات اغتيال سياسى عديدة، كان من أبرزها اغتيال الخليفة الفاطمى «الآمر بن المستعلى» ووزير السيف «الأفضل بن بدر الجمالى»، كما حكيت لك، لعبت دوراً مدهشاً فى التصدى للغارات الصليبية على الشام. وليس ثمة تناقض بين مسألتى الاغتيال لأهداف سياسية، والجهاد تحت راية دينية، فى أداء فرق «الفدائية» التابعة لـ«الحشاشين». فجماعات السيف تسعى إلى صبغ قتالها السياسى بصبغة دينية، تظهرها كجماعات مبدأ ودفاع عن العقيدة، فى إطار جهودها للدعاية السياسية. ولعلك تعلم أن جماعة «الإخوان» شاركت بقوة فى حرب فلسطين عام 1948، ولعب «النظام الخاص» دوراً مهماً فى هذه الحرب، شهد به العديد من المؤرخين، لكن فرق الموت الإخوانى التى واجهت عصابات اليهود فى فلسطين، هى نفسها التى مارست الاغتيال السياسى فى مصر ضد «النقراشى» و«الخازندار» قبل ثورة يوليو، كما برر لغيرها أيضاً القيام بعمليات اغتيال سياسى فى ظل سياق كان يستوعب هذا الأمر.
وغالباً ما تتشكل «فرق الاغتيال» من الشباب. فتلك واحدة من القواعد التى دشنها «الحسن الصباح»، معتمداً فى ذلك على تجربته الذاتية، فـ«الصباح» كان ينتمى فى الأصل إلى أسرة اثنى عشرية، من مدينة «قم» معقل هذا المذهب، وتحول بعد ذلك إلى المذهب «الإسماعيلى»، وهو ابن سبعة عشر عاماً، ويبدو أن «الصباح» أدرك بناء على ذلك أن دعوته لا بد أن تتوجه بالأساس إلى الشباب فى المراحل العمرية المبكرة، وذلك لعدة اعتبارات، أولها أن الشباب طيعين بدرجة أكبر فى قبول الأفكار الجديدة، المخالفة للسائد فى الواقع، وثانيها أن الشباب أكثر انبهاراً وأشد ميلاً إلى فكرة «المغامرة»، وربما كان هذا العامل هو الأكثر أهمية بالنسبة للحسن الصباح الذى كان سعى إلى تكوين خلايا مسلحة تؤسس لفرق «الفدائية» القادرة على تنفيذ عمليات الاغتيال بالمهارة وبالقدرة المطلوبة، وتقديرى أن كل من سعوا إلى تأسيس تنظيمات شبيهة بتنظيم «الحشاشين» استفادوا من هذا الجانب، بدرجة كبيرة، فوضعوا أعينهم منذ البداية على الشباب، وتوجهوا إليه بدعوتهم، ظهر هذا الأمر جلياً فى تجربة تأسيس جماعة الإخوان على يد حسن البنا، وبصورة أكثر جلاء فى تركيبة «النظام الخاص» الذى أنشأته الجماعة فى عهده، وهو أيضاً ما فعله سيد قطب عام 1965، وما سار عليه تنظيم «داعش» بعد ذلك عندما أعلن عن نفسه عام 2014.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق