الجمعة، 26 يونيو 2015

عناقيد الغضب .. (2) .. سلسلة بقلم الدكتور/ محمود خليل

من مصر بدأت القصة 
من مصر كانت البداية، وفى إيران (فارس) كان التأسيس والانتشار، وفى الشام كانت الرحلة. قصة «الحشاشين» تحكى لك كيف يبدأ أى تنظيم مسلح من أرض «المظلومية» وكيف يفعل الظلم أفاعيله بنوعية معينة من البشر، ويبرر لهم حمل السلاح فى وجه غيرهم، إذا توافرت القيادة التى تعرف كيف تكرس الإحساس بـ«المظلومية» داخل نفوس أتباعها، وتجيد بلورة فكرة «العنف» ليتحلق الجميع حولها، ويلجمون عقولهم عن التأمل فيها أو بحث درجة منطقيتها، وويل للعالم من بشر يعيشون فى «غيبوبة» عقلية، وإحساس نفسى بـ«المظلومية».
كانت البداية فى أخريات أيام الدولة الفاطمية، وتحديداً نهايات عصر «المستنصر بالله»، الخليفة الفاطمى الذى شهدت مصر فى عصره مجاعة مرعبة، أطلق عليها «الشدة المستنصرية». دعنى أحيلك فى هذا المقام إلى ما حكاه «السيوطى» فى كتابه «حسن المحاضرة فى ملوك مصر والقاهرة»، وهو يصف هذه المجاعة. يقول «السيوطى»: «فى سنة ستين وأربعمائة كان ابتداء الغلاء العظيم بمصر، الذى لم يسمع بمثله فى الدهور؛ من عهد يوسف الصديق عليه السلام، واشتد القحط والوباء سبع سنين متوالية بحيث أكلوا الجيف والميتات، وأفنيت الدواب، وبيع الكلب بخمسة دنانير والهر بثلاثة دنانير، ولم يبق لخليفة مصر سوى ثلاثة أفراس بعد العدد الكثير، ونزل الوزير يوماً عن بغلته، فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر وذبحوها وأكلوها، فأُخذوا فصُلبوا وأصبحوا وقد أكلهم الناس، ولم يبق إلا عظامهم. وظهر رجل يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم ويدفن رءوسهم وأطرافهم. وبيعت البيضة بدينار، وبلغ إردب القمح مائة دينار ثم عدم أصلاً. وكان السودان (يقصد السود) يقفون فى الأزقة، يصطادون النساء بالكلاليب، فيأكلون لحومهن، واجتازت امرأة بزقاق القناديل، فعلقها السودان بالكلاليب، وقطعوا منها قطعة، وقعدوا يأكلون وغفلوا عنها، فخرجت من الدار، واستغاثت، فجاء الوالى وكبس الدار، فأخرج منها ألوفاً من القتلى».
شاء الله أن تكون مصر المحطة الأهم فى نشأة جماعة «الحشاشين»، ففيها تشكلت معالم «المظلومية» التى أسس عليها الحسن الصباح جماعة «الحشاشين». قد يسأل سائل: وما العلاقة بين الحديث عن المجاعة التى ضربت مصر عصر «المستنصر» وموضوع «المظلومية» التى أسس عليها «الحسن الصباح» الفارسى جماعة «الحشاشين»؟. وأجيب قائلاً: العلاقة وطيدة بين المسألتين. فقد كانت تلك المجاعة السبب الأهم فى ظهور «عائلة الجمالى» وتبلور ظاهرة «وزير السيف»، على يد بدر الجمالى. كانت المجاعة التى شهدتها مصر أيام «المستنصر» عنيفة تواصلت لمدة سبع سنين، مثلها فى ذلك مثل الشدة اليوسفية التى شهدتها مصر أيام يوسف عليه السلام. وكأن قدر الله تعالى ألا تتوقف الشدائد عن اعتصار مصر والمصريين إلا بعد انقضاء تلك «السباعية». ومن يراجع وصف «السيوطى» لتلك المجاعة المرعبة يستطيع أن يستخلص المأساة الكبرى التى عاشها المصريون خلال تلك السنين، فقد بلغ بهم الأمر حد اللجوء إلى أكل الكلاب والقطط، بل وأكل لحوم بعضهم البعض، بعد أن أعمل من لديه بعض القوة يد القتل فيمن أهلكه الجوع. قد يبدو فى وصف «السيوطى» نوع من المبالغة، أو الشطط فى رسم حجم المأساة التى عاشها المصريون حينذاك، لكن ذلك لا ينفى بحال أنهم عانوا خلال تلك الفترة محنة جوع قاتلة أنهكت أبدانهم ونفوسهم، وبدأت هذه الأزمة تسير فى طريق الحل مع تولى وزير السيف «بدر الجمالى» إمارة الجيوش.
كان ظهور «الجمالى» فى المشهد إيذاناً بالخروج من تلك المحنة، بعد أن نجح فى وضع حد للفوضى والجرائم والفتن، فتخلص من كل رؤوس الفساد فى مذبحة الجمالية، وأعاد السيطرة على الحكومة، وأعاد سلطة القانون للبلاد. وبصعود «أمير الجيوش» إلى منصة الحكم إلى جوار الخليفة الضعيف «المستنصر» بدأ عصر جديد فى تاريخ الدولة الفاطمية، أصبحت الكلمة العليا فيه لأصحاب القوة وصار لـ«وزير السيف» سطوة تفوق سطوة مؤسسة الخلافة الفاطمية التى أصابها الكثير من الوهن. أدخل «الجمالى» العديد من الإصلاحات فى الجهاز الإدارى للدولة، وأعاد تقسيم البلاد إلى مجموعة من الولايات (المحافظات بالمصطلح الحديث) شملت قوص والشرقية والغربية والإسكندرية، بالإضافة إلى القاهرة والفسطاط، وقد أدت تلك الإصلاحات إلى ضبط الأوضاع العامة بعد حالة الفوضى التى سيطرت بالتوازى مع المجاعة التى تعرضت لها البلاد. ومن رحم «بدر الجمالى» خرج ولده «الأفضل» الذى ورث أباه فى إمارة الجيوش، وكانت له مع «الحسن الصباح» شيخ «الحشاشين» قصة، مثلت العامل الأهم فى نشأة «جماعات السيف»، ويبدو أن العلاقة بين «وزراء السيف» و«جماعات السيف» علاقة لزومية!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق