الجمعة، 26 يونيو 2015

عناقيد الغضب .. (1) .. سلسلة بقلم الدكتور/ محمود خليل

عناقيد الغضب .. من الحسن الصباح .. إلى البغدادى
تكوين جماعة مسلحة قادرة على السيطرة على مساحة من الأرض وحكم أهلها ليس بالأمر السهل من عدة وجوه. فهو يتطلب منذ البداية مناخاً مواتياً وسياقاً عاماً تتكامل فيه الأسباب التى تبرّر وجودها وقبولها، ولا بد أن تتحلق هذه الجماعة حول «مظلمة» معينة تبرر لأفرادها مواجهة ومناوأة السياق العام، ومن الضرورى لها وهى تفرد جناحيها على الأرض أن تتسم بأعلى درجات التنظيم والجرأة التى تساعدها على مواجهة قوى منظمة، قد تفوقها فى القوة والتسليح بأضعاف مضاعفة. وهناك حتمية فى أن يتوافر لهذه الجماعة قيادة ملهمة، قادرة على تكريس أفكار وأيديولوجيا تتغلل فى عقل ووجدان المريدين المتحلقين حولها، لتسوقهم أمامها بعد ذلك بأعلى درجات السهولة واليسر، وتحقق بهم أهدافها، حقرت أو عظمت. تلك هى مجموعة الشروط التى تكاملت فى لحظة من لحظات التاريخ الإسلامى فأنتجت جماعة «الحشاشين» التى أصّلت وفعّلت نظريات وطرق وأساليب العنف السياسى، وحمل السيف فى وجه الدول والحكومات والحكام، قبل الزمان بزمان. ورغم الجذور الشيعية لهذه الجماعة، فإن فكرها أصبح عابراً للمذاهب، حين تحول التنظيم إلى فكرة، قابلة للتطبيق فى أزمنة وأمكنة مختلفة وبين بشر متباينين فى المذاهب والمشارب.
إنها القصة الخالدة لجماعات من البشر يجمعها إحساس بـ«المظلومية»، يجيد قائد ذو صفات معينة استخدامهم فى بناء أيديولوجية قادرة على تبرير العنف ضد الآخر، وتوظيف السلاح فى تحقيق الأهداف، لكنها فى كل الأحوال تفتقر إلى القدرة على الاستمرارية، أو بناء تجارب يمكن أن يستفيد منها البشر العاديون، وإن كانت ثمة فائدة ترجى منها فهى تتمثل فى إلقاء حجر فى ماء الحياة السياسية الراكد، وتحريك سواكن أناس، حين تبث فيهم القدرة على تبنى أهداف كبرى، لو أنك سألت كثيرين منهم عن معناها فلن تجد لديهم إجابة محددة أو متماسكة، والفضل فى ذلك يعود إلى القيادة التى تتمتع بمهارة خاصة فى تغييب الأتباع، سواء بوسائل مادية أو معنوية. تلك هى قصة «عناقيد الغضب»، أو حركات العنف المسلح فى تاريخ المسلمين، بداية من طائفة «الحشاشين»، وانتهاء بتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش»، وضع بينهما ما تحب من تنظيمات وجماعات إسلامية مسلحة، كانت تظهر بين الحين والآخر فى هذه الدولة أو تلك من بلاد المسلمين، أو عبر مراحل تطورهم المختلفة. وأود أن أوضح منذ البداية أن الجماعة التى عُرفت فى التاريخ باسم «الحشاشين»، والتى أسسها «الحسن الصباح»، لم تسمِ نفسها بهذا الاسم، ولم يطلق عليها المؤرخون العرب القدامى الذين تعرضوا لشخصية مؤسسها هذا الوصف، إلا قليلاً. الرافد الأساسى لهذه التسمية هو الغرب من خلال كتابات المستشرقين والرحالة والصليبيين الذين دخل معهم «الإسماعيلية النزارية» -وهو المسمى الحقيقى لجماعة الحشاشين- فى قتال ضروس كانوا يؤدون فيه بشكل انتحارى، مسترخصين أرواحهم بشكل لم يعهده الغربيون فى معاركهم العسكرية السابقة، فاندفعوا إلى تفسير ذلك بحالة «الغيبوبة» التى يعيشها «النزارية» قبل خوض المعارك، جراء تناول مخدر «الحشيش»، ومن هذا المنطق أطلقوا عليهم «الحشاشين، ونسجوا حولهم وحول الحسن الصباح أو «شيخ الجبل» الذى يقودهم، مجموعة من الأساطير والهالات السحرية التى شكلت فى أحوال عديدة أكاذيب كبرى تتأسس على بعض الحقائق التاريخية الصغيرة.
وأصل العلة فى ذلك يرتبط بعاملين: أولهما عدم وعى الغربيين بالفكر العقائدى والإعداد القتالى الذى حكم «النزاريين»، خلافاً لغيرهم من المسلمين، والدور الذى تلعبه الفكرة المتحلقة حول «المظلومية» فى تحريكهم، وكذلك العامل المهم المرتبط بإحساسهم بأن قيادتهم تتمتع بنوع خاص من الإلهام الذى يوجب طاعتها، وهو الأمر الذى دفع الغربيين إلى تفسير الأداء القتالى لـ«النزاريين» طبقاً لنظرية «غيبوبة الحشيش» الذى يتعاطونه داخل حديقة «آلموت»، العامل الثانى يرتبط بالمسلمين أنفسهم -من أهل السنة- الذين ناصبوا «النزاريين» العداء، وروّجوا لتشويههم، وإلصاق الكثير من المعايب بهم، ومن بينها (تعاطى الحشيش)، بغض النظر عن وجه الحقيقة أو الأسطورة فيها. عموماً سنستخدم اللفظ الدارج أو الأكثر انتشاراً، وهو لفظ «الحشاشين»، فى سرد حكاية جماعة «الإسماعيلية النزارية» التى تحلقت حول الحسن الصباح «شيخ الجبل»، وشكلت عبر مراحل متتابعة تجربة ملهمة للعديد من الجماعات المسلحة فى تاريخ المصريين. كان أول مظهر للإلهام فيها هو بدء الرحلة من «جبل»، وهى الفكرة التى كرستها العقيدة الإسلامية التى احتفت بالجبل، وجعلته رمزاً أصيلاً من رموزها، ففوق جبل «حراء» هبط وحى السماء على النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، وداخل غار بجبل «ثور» تمكن النبى وصاحبه «الصديق» من الاختباء، خلال مطاردة المشركين لهما فى رحلة الهجرة إلى المدينة، التى شكلت منعطفاً خطيراً فى تاريخ الدعوة الإسلامية، وفوق جبل «عرفات» كانت خطبة الوداع، وفيها وصية النبى إلى الأمة. ومن قلعة فوق جبال «الديلم» خرج شيخ الجبل «حسن الصباح»، ومن جبال أفغانستان خرجت «طالبان»، ومن جبل «الحلال» بسيناء تعمل جماعة «أنصار بيت المقدس». وكل جبل وله «شيخ»!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق